ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم
– ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، خ2 – نبذةٌ عن أخلاق سيِّد الأنام.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى: الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر. اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ذكرى المولد مناسبةٌ ينفُذ منها الإنسان إلى قلوب الخلق :
أيها الأخوة الكرام… مرَّت على المسلمين ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وحول هذه الذكرى العطرة أفكارٌ أرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكِّنني من توضيحها. الفكرة الأولى: كيف نحتفل بذكرى المولد النبويِّ الشريف؟ أَلِفَ المسلمون أن يعقدوا احتفالاتٍ في المساجد، يأتي المسجد رواد المسجد، أو رواد مسجدٍ آخر، وتُلقى الكلمات التي تشيد بشمائل النبي عليه الصلاة والسلام. أيها الأخوة… هؤلاء الذين في المسجد هم روّاده، أو رواد مسجدٍ آخر، هم في مجموعهم طرفٌ واحد، لأن هؤلاء الذين يحضرون مجالس العلم يستمعون طوال العام إلى شمائل النبي، وإلى أخلاق النبي، وإلى سيرة النبي، ولكنَّك إذا أردت أن تنفع الطرف الآخر، فابحث في أسرتك عن إنسانٍ شارد لا يرتادُ المساجد، لا يعرف شيئاً عن الدين، تائهٍ في متاهات الحياة، ابحث في أقربائك، في أصدقائك، فيمن يلوذ بك، فيمن تعرف عن إنسانٍ لا يُصغي إلى كلمة الحق، لا يعرف شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لا يعرف أحقيَّة هذا الدين. اجمع هؤلاء بأسلوب أو بآخر وتكلَّم أنت، أو كلِّف من يتكلَّم عنك بحيث تنقل من الطرف الآخر إنساناً شارداً إلى صفوف المؤمنين. فذكرى المولد النبويِّ الشريف مناسبةٌ كي توسِّع دائرة المسلمين، مناسبةٌ كي ينضمَّ إلى جماعة المؤمنين أُناسٌ شاردون، أُناسٌ تائهون، أُناسٌ بعيدون، أما إذا تحدَّثت لإخوانك ولرواد المساجد فهؤلاء جميعاً طرفٌ واحد، جميعاً يصدِّقون هذا الكلام، ويعرفون هذا الكلام، وهم في مشاعرهم مع المتكلِّم، ولكن لم تُحْدِث جديداً، لم تفعلْ شيئاً ذا بال.. أعرف صديقاً له أبٌ لا يؤمن بالأديان كلِّها، بقي يُقْنِع أباه سنواتٍ طويلة، إلى أن حمله على أداء فريضة الصلاة، وكانت مناسبة ذكرى المولد فأقام احتفالاً في البيت، ودعا بعض العلماء الأجلاء، وألقوا كلماتٍ على أصدقاء والده الذين هم مثله، ما الذي حصل؟ أن عدَّة أشخاصٍ أقنعتهم هذه الكلمات وانضموا إلى جماعة المؤمنين. أيها الأخوة الكرام… ذكرى المولد النبويّ الشريف مناسبةٌ كي تُحَدِّث الناس عن أصل الدين، وعن سيد المرسلين، وعن هذه الدعوة الغرَّاء، وعن أحقيَّة هذا الدين، هذه مناسبةٌ يمكن أن تنفُذ منها إلى قلوب الخلق.
التجارة الرابحة هي التجارة مع الله :
أيها الأخوة الكرام… لو أن الأنبياء صلوات الله عليهم اهتموا بمن معهم لما توسَّعت دائرة المسلمين، لابدَّ من أن تفكِّر في الطرف الآخر، لابدَّ من أن تفكِّر في صديقٍ أو قريبٍ أو جارٍ شارد، لا يرتاد مجالس العلم، ولا يدخل إلى بيوت الله، لابدَّ من أن تفكر في إنسانٍ لو تمكَّنت من هدايته لكان هذا عملاً عظيماً عند الله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا عليِّ كرَّم الله وجهه:
((فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))- [البخاري عن سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
فكِّر في الطرف الآخر، فكِّر في التائه، فكِّر في الشارد، فكِّر في الذي لا يقيم أمر الدين في بيته؛ إن كان قريباً، إن كان صديقاً، إن كان جاراً هذا ينبغي أن تستجلِبَهُ، وأن تقنعه، وأن تبيِّن له إما أنت وإما عن طريق من يُحسن الكلام، إنك إن فعلت هذا فقد حقَّقت عند الله تجارة لن تبور، هذه هي التجارة الرابحة، ما قولك لو أنك أبٌ ولك ابنٌ شارد، تائه، عاق، وجاء من يقنعه ليكون باراً بك، كم تشعر تجاه هذا الذي ضمَّ ابنك إليك وجعله باراً بك وأقنعه بفضلك عليه؟ كم تشعر بمعروفٍ أسداه إليك هذا الإنسان؟ ولله المثل الأعلى. هذه نقطة..
الاحتفال بذكرى المولِدِ ممارسة لنشاطٍ إسلامي:
النقطة الثانية في ذكرى المولد النبويّ الشريف بعضهم يقول: إن الاحتفال بذكرى المولِدِ بدعة. والجواب الدقيق هو أنك إذا ألقيت على الناس حديثاً عن شمائل النبي ماذا فعلت؟ ألم يقل الله عزَّ وجل:
﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ﴾ [ سورة المؤمنون:69]
تعريف الناس بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ بعصمته، وبنبوَّته، وبشمائله، وبسيرته، وبأقواله، وبأفعاله، وبدوره، وبقدوته من صلب الدين، ولو قدَّمت الطعام – وإطعام الطعام من سنة سيد المرسلين – متى يغدو المولد بدعةً؟ إذا قلت: إن الاحتفال بذكرى المولد عبادةٌ يجب أن تؤدَّى، إن قلت إنما هو عبادة فهو ليس بعبادة، إنما هو ممارسة لنشاطٍ إسلامي مغطىً بآيات القرآن الكريم، وبسنة النبي عليه أتمّ الصلاة والتسليم.
معرفة سيرة النبي فرضُ عينٍ على كل مسلم :
أيها الأخوة الكرام… النقطة الثالثة: يجب أن نعتقد جميعاً أن معرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام فرضُ عينٍ على كل مسلم، ودقِّق في كلمة ” فرض عين ” أيْ لا يُعفى مسلمٌ كائناً مَنْ كان مِن معرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، طالبني بالدليل، قال الله تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [ سورة الأحزاب: 21]
كيف يكون لك النبي أسوة حسنة؟ إن لم تعرف مواقفه، إن لم تعرف شجاعته، إن لم تعرف رحمته، إن لم تعرف عدله، إن لم تعرف علاقته بأزواجه، علاقته بإخوانه، علاقته بجيرانه، كيف تتخذ النبيُّ أسوةً وقدوةً ومثلاً إن لم تعرف سيرته ومواقفه؟.
أيها الأخوة الكرام… سيرة النبيّ منظومة قيَم كاملة، وكل موقفٍ وقفه النبي يجب أن تُقَلِّده، يكفيك أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام حين كان مع أصحابه في سفر، وأرادوا أن يعالجوا شاةً ليأكلوها، قال أحدهم: عليَّ ذبحها، وقال الآخر: عليَّ سلخها، وقال الثالث: عليَّ طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: ” وعليَّ جمع الحطب ” – ولو سألتم الخبراء في هذا العمل لقالوا: إنه من أشق الأعمال..- فقال أصحابه: يا رسول الله نكفيك ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام:” أعرف أنكم تكفونني، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه”
هذه من سُنَّة النبي العملية، من سيرته، لو طبَّقها المسلمون في نشاطاتهم كلِّها لما وجدت شِقاقاً، ولا عداوةً، ولا مشاحنةً، ولا بغضاء، ولا تدابُر، إذا سوَّيت نفسك مع الناس أحبَّك الناس، أما إن استعليت عليهم فأبغضك الناس، هذه واحدة.
فيا أيها الأخوة الكرام… لو وقفتم عند مواقف النبي وسيرته موقفاً موقفاً، ومشهداً مشهداً، لاستنبطتم من مواقفه قواعد لحياتكم، مناهج في سيرتكم، منظومة قيَم تَنْظِم أعمالكم. إذاً معرفة سنة النبي العملية أو معرفة سيرته فرض عينٍ على كل مسلم لقوله تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [ سورة الأحزاب: 21]
معرفة سُنَّةِ النبيِّ القوليَّة فرض عينٍ على كل مسلم :
شيءٌ آخر: معرفة سُنَّةِ النبيِّ القوليَّة – أيْ أحاديثه الشريفة – فرض عينٍ على كل مسلم، والدليل:
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [ سورة الحشر: 7 ]
كيف تأخذ عن النبي وأنت لا تعرف أَقوال النبي؟ وكيف تنتهي عما نهى عنه النبي وأنت لا تعرف منهيات النبي؟ إذاً ما لا يؤدَّى الفرض إلا به فهو فرض، ما لا تؤدَّى السُنة إلا به فهو سُنَّة، ما لا يؤدى الواجب إلا به فهو واجب، وهذه قاعدةٌ أصوليَّة، الوضوء فرض؟ نعم لأن الصلاة وهي فرض لا تؤدَّى إلا به، فكما أن الصلاة فرض فالوضوء فرض، ما لا يؤدَّى الفرض إلا به فهو فرض، ما لا تؤدى السُنَّة إلا به فهو سنة، ما لا يؤدى الواجب إلا به فهو واجب. ولكن حينما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [ سورة الحشر: 7 ]
كيف تأخذ وكيف تنتهي وأنت لا تعرف ماذا أمر وماذا نهى؟ إذاً معرفة سنة النبي القولية – أي أحاديثه الشريفة – فرض عينٍ على كل مسلم. هذه النقطة الثالثة.
دعوة محبة الله تكون باتباع سُنة نبيه :
النقطة الرابعة في ذكرى المولد هي أنَّك إذا ادَّعيت أنك تحب الله عزَّ وجل، هذه دعوة تحتاج إلى دليل، وقد كَثُر المُدَّعون، والدليل اتباع سنة النبي، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ [ سورة آل عمران: 31 ]
لا دعوة إلا بالدليل، دعوة محبة الله دعوة عريضة يدَّعيها كل إنسان، ولكن المِحَكَّ الصحيح، والفَيْصَل الدقيق، والبرهان الساطع في اتباع سُنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإيَّاك أيها الأخ الكريم أن توهِم نفسك أنك محبٌ لله وأنت لا تتبع سُنَّة رسول الله، إياك أن تتوهَّم أن الله يحبك وأنت لا تتبع سنة رسول الله..
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ [ سورة آل عمران: 31 ]
من طبق سنة النبي حقق الهدف من وجوده :
شيءٌ آخر في موضوع ذكرى المولد النبويّ الشريف وهو أنك إذا اتبعت سُنَّة النبي، أيْ سرت على المنهج الذي أمرك الله به ماذا فعلت؟ فعلت كل شيء، بمعنى أنك حقَّقت الهدف من وجودك، ومن خلقك، إنك على الطريق الصحيح، وعلى الصراط المُستقيم، ونحو الهدف المرسوم، عندئذٍ أنت في بحبوحة، ليس هناك من مبررٍ كي تُعالج وأنت صحيحٌ معافى، لذلك قال الله تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [ سورة الأنفال: 33 ]
قال علماء التفسير: أنت فيهم في حياتك، وسُنَّتك قائمةٌ فيهم بعد مماتك، إذا كانت سُنة النبي مطبَّقةً في بيتك، مطبَّقةً في عملك، مطبَّقةً في حركاتك وسكناتك، في أفراحك، إذا طبَّقت سنة النبي فلماذا يعذِّبك الله عزَّ وجل؟..
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [ سورة الأنفال: 33 ]
أيْ أن سنَّتك فيهم؛ في حياتهم، بنوا حياتهم على سنتك، بنوا حياتهم على طاعة رسول الله، طوبى لمن وسعته السنة ولم تستهوه البدعة، أنت في بحبوحة، ما دمت مطبقاً لسنة النبي فأنت في بحبوحة، وما دام النبي بين ظهراني أصحابه فهم في بحبوحة، ما دام بين ظهرانيهم في حياته، يأتيه الوحي، ويبلِّغهم، ويتَّبعونه فهم في بحبوحة، وما داموا بعد مماته مطبِّقين لسُنَّته فهم في بحبوحة.
ألا تشعرون أيها الأخوة أننا في أمسِّ الحاجة لمعرفة سنة النبي ما دامت سنة النبي أماناً لنا من العذاب؟
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [ سورة الأنفال: 33 ]
معنى ” أنت فيهم ” أيْ سنتك قائمةٌ في حياتهم اليوميَّة، فهل تنام وَفْقَ السُنة؟ وهل تستيقظ وفق السنة؟ وهل تأكل وفق السنة؟ وهل تعامل زوجتك وفق السنة؟ وهل تبيع وفق السنة؟ وهل تشتري وفق السنة؟ هكذا.
دين الله مبنيٌ على العدل :
شيءٌ آخر في موضوع ذكرى المولد النبويِّ الشريف وهو: هذه حقيقةٌ أيها الأخوة دقيقةٌ جداً، لو كنت في حياة النبي، في عهد النبي، بين أصحابه، واستطعت أن تنتزِع من فمه الشريف حُكْمَاً لصالحك، أوتيت حجةً، وطلاقة لسان، وقوة إقناع، وأقنعت سيد الخلق وحبيب الحق، وهو قاضٍ بينك وبين خَصْمِك، انتزعت من فمه الشريف حُكْمَاً لصالحك، ولم تكن محقاً، لا تنجو من عذاب الله، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا )) [البخاري عن أم سلمة ]
مهما أحببت النبي، مهما أظهرت من حبك له، إن لم تكن مستقيماً على أمر الله، إن لم تؤدِ الحقوق لأصحابها، إن لم تقم بواجباتك كاملةً لا تنجو من عذاب الله، فلئلا يتوهَّم متوهِّم أن الاحتفال بذكرى المولد، ومديح النبي هذا ينجينا من عذاب الله، حقوق العباد لا تسْقط إلا بالأداء أو بالمسامحة، ولا سبيل آخر إلا سقوطها، لا تسقط إلا بالأداء أو المسامحة، أيضاً لئلا يتوهَّم المسلمون أن جَمْعَ الناس، وإلقاء الكلمات، وإنشاد المنشدين، وتوزيع الطعام هذا يغطي انتهاكهم للحقوق، يغطي تقصيرهم بالواجبات، لو أنك في عهد النبي، وكنت مع النبي عليه الصلاة والسلام وانتزعت من فمه الشريف حُكْماً لصالحك ولم تكن على حق، لا تنجو من عذاب الله، كن على بصيرةٍ من أمره، هذا دين الله لا يُلْعب فيه، هذا دين الله مبنيٌ على العدل.
حتى الحج الذي يتوهَّمه الناس أن الإنسان إذا حجّ بيت الله الحرام رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، هذا لا ينطبق إلا على الذنوب التي بينك وبين الله، أما التي بينك وبين العباد فلا تسقط إلا بالأداء أو بالمُسامحة.
الخلق الحسن يرفع الإنسان عند الله :
أيها الأخوة الكرام… نقطةٌ تالية من النقاط التي تُثيرها مناسبة ذكرى المولد النبويّ الشريف: النبي عليه الصلاة والسلام كان خطيباً سيد الخطباء، وكان عالِماً سيد العلماء، وكان مجتهداً سيد المجتهدين، وكان فقيهاً سيد الفقهاء، وكان قاضياً سيد القُضاة، وكان زعيماً سيد الزعماء، وكان قائداً حربياً سيد القوَّاد، الله جلَّ جلاله حينما أراد أن يمدحُهُ، وأن يثني عليه، وهو خالق الكون بماذا مدحه؟ بماذا أثنى عليه؟ قال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [ سورة القلم: 4]
فما الذي يرفعك عند الله؟ الخُلُق العظيم، ما الذي يعلي قدرك عند الله؟ حُسْنُ الخُلُق، ما الذي يدخلك الجنة؟ حسن الخلق، ما الذي تسمو به؟ حسن الخلق، لأن الله سبحانه وتعالى حينما مدح نبيَّه الكريم لم يمدحه إلا بالشيء الذي يرفعُه عنده، إنه الخُلُق العظيم، قد يؤتى الإنسان قدرات علمية أو خطابية، أو قدرات في إقناع الناس، هذه القُدرات إن لم يرافقها خُلُقٌ، وسموٌ، وعفَّةٌ، وصدقٌ، وأمانةٌ، لا ترفع صاحبها عند الله.
الدعوة إلى الله لا يُصلحها الاستعلاء و إنما الخُلُق الحسن :
أيها الأخوة الكرام… هناك شيءٌ آخر يُهمس به إلى الدُعاة، النبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق، وحبيب الحق، سيد ولد آدم، أكرم الخلق على الله، أقربهم إلى الله، أشدّهم لله خشية، ومع كل ذلك يُوحى إليه، نزل عليه القرآن، أيده الله بالمعجزات ومع كل ذلك قال الله له:
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [ سورة آل عمران: 159 ]
فهذا الذي يُوحى إليه، والمعصوم، وسيد الخلق، وحبيب الحق، المؤيَّد بالمعجزات، الذي نزل عليه القرآن هو.
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [ سورة آل عمران: 159 ]
فهذا الداعية الذي لا يوحى إليه، وليس معه كرامة، وليس مؤيَّداً، وليس معصوماً، لو كان فظاً غليظ القلب لانفضَّ الناس عنه من باب أوْلَى، سيد الخلق ينفضُّ الناس عنه لو كان فظاً غليظ القلب فكيف برجل من عامة المؤمنين؟ فالدعوة إلى الله لا يُصلحها القسوة، ولا الشدة، ولا الاستعلاء، ولا الكِبْر، الدعوة إلى الله تحتاج إلى خُلُقٍ حسن كي تملك قلوب الناس. لأن الأقوياء يملكون الرقاب، أما المؤمنون فيملكون القلوب، وشتَّان بين من يملِك رقبةً وبين من يملِك قلباً، سلاح الداعية إلى الله أخلاقه الحميدة، تواضعه، إيناسه، أمانته، صدقه..
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [سورة آل عمران:159]
تلخيص لما سبق :
هذه النقاط أيها الأخوة… الأولى: إذا أردت أن تحتفل بذكرى مولد النبي عليه الصلاة والسلام فكِّر في الطرف الآخر؛ في الشاردين، في المقصِّرين، في الذين لا يصلون، في الذين لا يرتادون بيوت الله، في الذين لا يعرفون عن الله شيئاً، هؤلاء اجمعهم، حدِّثهم أنت، إن كانوا أصدقاءك، أو جيرانك، أو أقرباءك، اجمعهم، ادعهم إلى طعام، ادعهم إلى ضيافة، حدِّثهم عن النبي، إن كنت أنت تحسن ذلك ادع من يحدثهم بهذا، هذا هو الاحتفال المُجْدي الذي تَضُم فيه طرفاً آخر إلى جماعة المؤمنين. الشيء الثاني: أن تُعَرِّف الناس برسول الله، وأن تطعمهم الطعام هذا ليس بدعةً هذا من الدين، البدعة أن تقول: إن الاحتفال بذكرى المولد من العبادة، هو ليس من العبادة، ولكن نشاط يقوم به المؤمن وَفْقَ كتاب الله وسنة رسوله. شيءٌ ثالث: معرفة سنة النبي القولية فرض عينٍ على كل مسلم، لابدَّ من أن تعرف أحاديث رسول الله الصحيحة، والمتواترة، والضعيفة، والموضوعة من أجل أن تجتنبها، من أجل ألا تنزلق إليها، معرفة سنة النبي ومعرفة سيرة النبي فرضا عين، لآيتين كريمتين لأن ما لا يؤدى الواجب إلا به فهو واجب. وهناك شيءٌ رابع: إذا طبَّقتَ منهج النبي فأنت في بحبوحة، أحد أركان النجاة تطبيق سنة النبي..
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [ سورة الأنفال: 33 ]
إياك أن تتوهَّم أن المبالغة في إقامة الاحتفالات تُغَطِّي عليك مساوئك، أو تعفيك مِن تَبِعاتك، أو من أداء واجباتك، هذا لا يعني شيئاً، لأنك لو انتزعت من فم النبي حكماً لك ولم تكن محقاً لا تنجو من عذاب الله.
وتذكَّر أن الذي يرفعك عند الله الخُلق الحسن لأن الله عزَّ وجل لم يمدح النبي إلا بالشيء الذي يرفعه عنده، قال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [ سورة القلم: 4]
وإذا دعوت إلى الله فكن في أعلى درجات الكمال، كن في أعلى درجات الود، كن في أعلى درجات التواضع، لأن النبي وهو الذي يوحى إليه، وهو المؤَيَّد بالمعجزات..
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [ سورة آل عمران: 159 ]
التلازمٌ بين التدين الصحيح والخلق القويم :
أيها الأخوة الكرام… سأبيِّن لكم ما يؤكِّد هذا الكلام، هناك تلازمٌ ضروري بين التدين الصحيح والخلق القويم، تلازم ضروري، إذا انعدم الخُلُق انعدم التديُّن، فالنبيُّ عليه الصلاة والسلام حدَّد الغاية الأولى من بعثته، والمنهج الأمثل لدعوته، فقال فيما رواه الإمام مالك:
(( وإنما بعثت معلماً )) [أخرجه الحارث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]
(( إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ حُسْنَ الأخلاقِ )) [أخرجه مالك عن بلاغ مالك ]
الهدف هو إرساء البناء الأخلاقي للفرد والمجتمع، والوسيلة هي التعليم..
(( علِّموا ولا تعنفوا فإن المعلِّم خيرٌ من المعنِّف )) [الجامع الصغير عن أبي هريرة]
والمتتبع لنصوص القرآن الكريم، وللسُنَّة المطهَّرة الثابتة يجد هذا التلازم الدقيق الضروري بين التَدَيُّن الصحيح والخُلُق القويم، الآن استمعوا للآيات قال تعالى:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾[ سورة الماعون: 1-2]
هو نفسه..
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾[ سورة القصص: 50]
قول النبي الكريم:
(( لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ )) [أحمد عن أنس بن مالك]
الإيمان والحياء قُرِنا جميعاً، إذا رُفِعَ أحدهما رُفِعَ الآخر.
اتصال النفس بربها يحقق لها الطهارة النفسية :
أيها الأخوة الكرام… النجاح كل النجاح، والفلاح كل الفلاح، والفوز كل الفوز، والسعادة كل السعادة باتصال النفس بربِّها، هذا الاتصال يحقِّق الطهارة النفسية، والاصطباغ بمكارم الأخلاق..
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾[ سورة الشمس: 9-10]
أيها الأخوة الكرام… هذا حديثٌ فَيْصَل في الموضوع، الإمام أحمد في مسنده أورد عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أن رجلاً قال:
(( إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ)) [ رواه أحمد و البزار عن أبي هريرة]
النبي عليه الصلاة والسلام فيما أورده الإمام مسلم في صحيحه، سأل أصحابه يوماً:
(( أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ : الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ )) [ مسلم عن أبي هريرة ]
من هو المفلس؟ “الذي يأتي بصلاةٍ وصيامٍ وصدقةٍ ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، يعطى هذا من حسناته، وهذا من حسـناته، فإذا فنيت حسنات طرَحوا عليه سيئاتهم حتى يطرح في النار“. هذا هو المفلس..
أيها الأخوة الكرام… الاحتفال بذكرى المولد يعني تطبيق سنة النبي.
أحاديث عن قيمة الأخلاق في حياة المؤمن :
الآن استمعوا إلى أكثر من عشرة أحاديث صحيحة عن قيمة الأخلاق في حياة المؤمن. لقد بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن:
(( من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: أحسنهم أخلاقاً ))[الطبراني عن أسامة بن شريك ]
((… وإن أكملهم إيماناً أحسنهم خلقاً…))[الطبراني عن جابر بن سمرة]
وأن..((خير ما أعطي الرجل المؤمن خُلُقٌ حسن))[الطبراني عن أسامة بن شريك]
وأنه..
((مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ ))
[الترمذي عن أبي الدرداء ]
وأن..
(( إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ ))[أبي داود عن السيدة عائشة ]
بل إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة. و..
((الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجَليد، والخلق السوء يُفسد العمل كما يفسد الخلُّ العسل )) [الجامع الصغير عن ابن عباس ]
أيها الأخوة الكرام… هذا كلامٌ واضح، كلامٌ واضحٌ كالشمس، إذا أردت أن تسعد، إذا أردت بحبوحة الله عزَّ وجل، إذا أردت أن تَسْلَم فعليك بسُنة النبي، ولا معنى أبداً أن تحتفل بذكرى المولد وأنت مُتَلبِّس بمعصية، هناك من يدير مسبحاً فيه اختلاط، أقام فيه احتفالاً، وأُلقيت الكلمات، وظنَّ أن الأمر يجري هكذا، ما دمت متلبساً بمعصيةٍ فلا معنى من احتفالك بذكرى المولد، سلوكٌ غبيّ، سلوكٌ فيه دَجَل، لا ينبغي أن تحتفل بذكرى المولد إلا بعد أن تُرضي رسول الله باتباع سنَّته.
أيها الأخوة الكرام… حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُقِ العظيم.
نبذةٌ عن أخلاق سيِّد الأنام :
أيها الأخوة الكرام… نبذةٌ عن أخلاق سيِّد الأنام: لقد كان صلى الله عليه وسلَّم جَمَّ التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، ينصرف بكلِّه إلى محدِّثه؛ صغيراً كان أو كبيراً، ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح، إذا تصدَّق وضع الصَدَقَةَ بيده في يدِ المسكين، وإذا جلسَ جلس حيث ينتهي به المجلس، ولم يُرَ ماداً رجليه قَط، ولم يكن يأنف من عملٍ لقضاء حاجته. ثلاثة مقاييس: ورد في السنة أنه:
(( وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده )) [رواه القضاعي والديلمي عن جابر مرفوعاً وهو عند ابن لال عن أبي أمامة. وفي لفظ بضاعته بدل سلعته]
(( من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق )) [ أخرجه الطبراني في الصغير عن أبي هريرة ]
(( برئ من الشح من أدى زكاة ماله ))[أخرجه الطبراني عن جابر بن عبد الله ]
من أدَّى زكاة ماله لا يجوز أن تقول عنه شحيح، ومن حمل حاجته بيده لا يجوز أن تقول عنه متكبِّر، ومن أكَثَرَ من ذِكْرِ الله لا يجوز أن تقول عنه منافق.
وإذا جلسَ جلس حيث ينتهي به المجلس، لم يُرَ ماداً رجليه قط، سيِّد الخلق لم يُرَ ماداً رجليه قط، أيعقل أن يجلس إنسان صحيح معافىً في مجلس ويمدُّ رجليه؟! سيد الخلق أمام أصحابه ما مدَّ رجليه قط، إلا إذا كان معذوراً، لم يُرَ ماداً رجليه قط، ولم يكن يأنف من عملٍ لقضاء حاجته، أو حاجة صاحبٍ أو جار، فكان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته ويقول: ” أنا أوْلَى بحملها “. وكان يجيب دعوة الحُرِّ والعَبْد والمسكين، ويقبل عذر المعتذر، عامة المسلمين إذا الداعي غني، لمجرَّد أن يدعوهم كانوا عنده في الوقت المحدَّد، أما إذا الداعي فقير فإنهم يعتذرون، بقوله: مشغول، وبشتَّى الأعذار، النبي عليه الصلاة والسلام على عِظَم قدره كان يجيب دعوة الحُرّ والعَبد والمسكين، ويقبل عذر المُعتذر، وكان يرفو ثوبه، ويخصف نَعْلَهُ، ويكنس داره، ويخدم نفسه، ويعقِل بعيره، وكان في مَهنة أهله، وكان يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، وكان يمشي هوناً خافض الطرف، متواصل الأحزان، دائم الفكرة، لا ينطق من غير حاجة، طويل السكوت، إذا تكلَّم تكلَّم بجوامع الكَلِم، كان دمثاً ليس بالجاحد، ولا المهين، يعظم النعم وإن دَقَّت، ولا يَذُمَ منها شيئاً، ولا يذم مذاقاً، ما عاب طعاماً قط، ولا يمدحه، لا يمدح ولا يعيب، ولا تُغْضِبُهُ الدنيا ولا ما كان منها، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا غَضِبَ أعرض وأشاح، وإذا فَرِحَ غَضَّ طرفه.
كان يؤلِّف ولا يفرِّق، يجمع الناس لا يفرِّقهم بالغيبة والنميمة، كان يؤلِّف ولا يفرِّق، يقرِّب ولا يُنَفِّر، يُكَرِّمُ كريم كل قوم ويولِّه عليهم، يتفقَّد أصحابه، يسأل الناس عما في الناس، يُحَسِّن الحسن ويصوِّبه، ويقبِّح القبيح ويوهِّنه، لا يقصِّر عن حق ولا يجاوزه، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه مِنْهُ، من سأله حاجةً لم يردَّه إلا بها أو ما يسرُّه من القول.
كان دائمَ البشر، سهل الخلق، ليِّنَ الجانب، ليس بفظٍ ولا غليظ، ولا صَخَّابٍ، ولا فَحَّاشٍ، ولا عيَّابٍ، ولا مزَّاحٍ، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يخيِّب فيه مؤمِّلاً، وكان لا يذمُّ أحداً ولا يُعَيِّره، ولا يَطْلُب عورته، ولا يتكلَّم إلا فيما يُرْجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه، ويتعجَّبُ مما يتعجَّبون، ويصبر على الغريب وجفوته في مسألته ومَنْطِقِه، ولا يقطع على أحدٍ حديثه حتى يجوزه.
أيها الأخوة الكرام… الحديث عن شمائل النبي لا تتسع له المجلَّدات ولا خطبٌ في سنوات، ولكن الله جلَّ في عُلاه لَخَّصها في كلمات، فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[ سورة القلم: 4]
الخُلُقُ العظيم هو الخير كله، هو الإيمان، هو القُرب من الله عزَّ وجل، وإذا احتفلنا بذكرى المولد فينبغي أن نتخلَّق بأخلاق النبي، وأن نتبع سُنة النبي، وكيف نتَّبع سنة النبي إن لم نعرفها؟ إذاً طلب العلم طريق الفوز في الدنيا والآخرة..
“إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم”..
الدعاء :
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت. اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تُهِنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا رب العالمين اللهمَّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك. اللهمَّ استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنَّا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين، اللهمَّ لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك، اللهمَّ يا أكرم الأكرمين أعطنا سؤلنا، واغفر لنا ذنوبنا وارحمنا إنك أرحم الراحمين. اللهمَّ إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء مولانا رب العالمين، اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنه على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين