طلب العلم الشرعي
– طلب العلم الشرعي – يليه – وصايا لطلبة العلم
خطب للشيخ د.أمين بن عبد الله الشقاوي
– طلب العلم الشرعي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من أفضل العبادات، وأجل الطاعات التي حث عليها الشرع طلب العلم الشرعي، والمقصود بالعلم الشرعي، علم الكتاب والسنة، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
روى البخاري ومسلم من حديث معاوية – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» ( برقم (3641) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 694) برقم (3096).
قال بعض أهل العلم: «من لم يفقه في الدين لم يرد به خيرًا»، وروى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَالْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (برقم (3641) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 694) برقم (3096).
قال الأوزاعي: «الناس عندنا هم أهل العلم، ومن سواهم فلا شيء»،
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «حاجة الناس إلى العلم الشرعي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب». قال سفيان الثوري: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم، وقال أبو جعفر الطحاوي: كنت عند أحمد بن أبي عمران فمر بنا رجل من بني الدنيا فنظرت إليه وشغلت به عما كنت فيه من المذاكرة، فقال لي: كأني بك قد فكرت فيما أُعطي هذا الرجل من الدنيا، قلت له: نعم، قال: هل أدلك على خلة؟ هل لك أن يحول الله إليك ما عنده من المال ويحول اليه ما عندك من العلم فتعيش أنت غنياً جاهلاً ويعيش هو عالماً فقيراً؟ فقلت: ما أختار أن يُحَوِّلَ اللهُ ما عندي من العلم إلى ما عنده فالعلم غنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وسلطانٌ بلا رجال، وفي ذلك قيل:
العلمُ كَنزٌ وذخرٌ لا نفادَ لهُ … نِعْم القرينُ إذا ما صَاحبَ صَحبا
قد يجمعُ المرءُ مالاً ثُمَّ يُحرَمُهُ … عما قليلٍ فيَلقَى الذلَّ والحَربَا
وجامِعُ العلمِ مغبوطٌ به أبداً … ولا يحاذرُ منه الفَوتَ والسَلبَا
يا جامعَ العلمِ نِعمَ الذُّخرُ تَجمَعُهُ … لا تَعْدلَنَّ به دُراً ولا ذَهَبَا (جامع الآداب لابن القيم، تحقيق: يسري السيد محمد (1/ 271 – 272)
ومن فضائل هذا العلم: أنه يبقى أجره بعد انقطاع أجل صاحبه، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»
ومنها: أن أهل العلم هم القائمون بأمر الله حتى تقوم الساعة، روى البخاري ومسلم من حديث معاوية – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَاتِيَ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» (صحيح البخاري برقم (3641)، وصحيح مسلم برقم (1037) واللفظ له.)
روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال عن هذه الطائفة: «إن لم يكونوا من أهل الحديث فلا أدري من هم».
قال عبد الله بن داود: سمعت سفيان الثوري يقول: إن هذا الحديث عز، فمن أراد به الدنيا وجدها ومن أراد الآخرة وجدها … وكان الشافعي إذا رأى شيخاً سأله عن الحديث والفقه، فإن كان عنده شيء وإلا قال له: لا جزاك الله خيراً عن نفسك ولا عن الإسلام، قد ضيعت نفسك وضيعت الإسلام (جامع الآداب لابن القيم، تحقيق: يسري السيد محمد (1/ 271 – 273)
ومنها: أنه طريق عظيم إلى الجنة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» ( قطعة من حديث برقم (2699)
ومنها: أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ؟ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ؟ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟» (صحيح البخاري برقم (3470)، وصحيح مسلم برقم (2766) واللفظ له).
ومنها: أن الله تعالى يقذف لأهل العلم الربانيين هيبة ومحبة، وتقديرًا في قلوب الناس، فتجد الألسن تتابع في الثناء عليهم، والقلوب تتفق على احترامهم وتقديرهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96].
ومنها: أن طلب العلم خير للمرء من متاع الدنيا، روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة ابن عامر – رضي الله عنه – قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَاتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ؟» فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ: «أَفَلاَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيَعْلَمَ أَوْ يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ» (برقم 803 )
ووسائل طلب العلم كثيرة، كحضور الدروس العلمية للعلماء والمشايخ، والمحاضرات العامة، والكلمات في المساجد، وقراءة الكتب النافعة، والاستماع إلى الأشرطة المفيدة، وسؤال أهل العلم عما أشكل، وحفظ كتاب الله فهو رأس العلوم كلها. ولله دَرُّ الشافعي عندما قال:
كل العُلُومِ سِوَى القُرآنِ مَشغَلَةٌ … إِلاَّ الحديثَ وعِلمَ الفِقْهِ فِي الدِّين
العلمُ ما كان فيه قال حدثنا … وما سِوى ذَاكَ وسْوَاسُ الشَّياطِين
وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن من علامات الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا» (البخاري برقم (100)، ومسلم برقم (2673).
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستعيذ بالله من علم لا ينفع، روى النسائي من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: كان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الأَرْبَعِ: مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ»(برقم (5467) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 1125) برقم (5110).
وروى ابن ماجة من حديث جابر – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «سَلُوا اللهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ» (برقم (3843) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 327) برقم (3100)
ويجب على المسلم أن يطلب العلم الشرعي خالصًا لوجه الله، لا من أجل منصب، أو مال، أو عرض من الدنيا، روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ عز وجل، لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، يَعْنِي: رِيحَهَا (برقم (3664) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 697) برقم (3112)
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَاسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (صحيح البخاري برقم (79)، وصحيح مسلم برقم (2282)
– وصايا لطلبة العلم
وهذه بعض الوصايا التي أوصي بها نفسي وإخواني، وأسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح.
الوصية الأولى: الحرص على طلب العلم الشرعي
قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاوية – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (صحيح البخاري برقم (3116)، وصحيح مسلم برقم (1037).
قال بعض أهل العلم: «من لم يفقه في الدين لم يرد الله به خيرًا». روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، وإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَم يُوَرِّثُوْا دِيْنَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوْا العِلمَ، فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (برقم (3641) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 342) برقم (2159).
قال الأوزاعي: «النَّاسُ عِنْدَنَا هُم أَهْلُ العِلمِ، وَمَن سِوَاهُم فَلَيْسُوابِشَيْءٍ»، وقال الإمام أحمد بن حنبل: «حاجة الناس إلى العلم الشرعي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الرجل يحتاج الى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه».
وأهل العلم هم القائمون بأمر الله حتى تقوم الساعة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاوية وثوبان: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَاتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» ((صحيح البخاري برقم ((71))، وصحيح مسلم برقم (1920) واللفظ له – وفي رواية: «قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ» (صحيح البخاري برقم (71).
قال الإمام أحمد بن حنبل: «إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟».
وقال أيضاً:
دينُ النبِي محمدٍ آثارُ … نِعمَ المطيةُ للفتى الأخبارُ
لا تَرْغبنَّ عنِ الحديثِ وأهلِهِ … فالرأيُ ليلُ والحديثُ نهارُ
ولرُبَّما جَهِلَ الفَتَى طُرُق الهُدى … والشمسُ بازغةٌ لها أنوارُ
وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه في آخر الزمان يرفع العلم، ويكثر الجهل، ورفع العلم بموت حملته. روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (صحيح البخاري برقم (100)، وصحيح مسلم برقم (2673) واللفظ له.
وفي هذه الحال يكون تعلم العلم وتعليمه أوجب وأوكد، وليعلم أن رأس العلوم كلها هو كتاب الله الكريم، فلنحرص على حفظه وفهمه وتدبره، والعمل به، وكذلك تعلم سنة النبي – صلى الله عليه وسلم -، والتفقه فيها، وليكن أخذنا للعلم من أهله، وهم السلف الصالحون، والأئمة المهديون، حتى لا نقع في الفتاوى المضلة، والأهواء المهلكة.
الوصية الثانية: الدعوة إلى الله عز وجل
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
وفي الصحيحين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعلي: «… لأَن يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» (صحيح البخاري برقم (2942)، وصحيح مسلم برقم (2406).
وهذا الحديث يغلط فيه بعض الناس، حيث يقوم بالدعوة، وربما تجرأ على الفتوى وهو من أجهل الناس، وقد يستدل بحديث «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» (صحيح البخاري برقم (3461).
. ولم يعلم المسكين أن تبليغ آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يكون إلا بعد فهمهما بمراجعة أقوال المفسرين، وشراح الأحاديث حسب الطرق الصحيحة التي سلكها أهل العلم، وبينوها لطلاب العلم.
والدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والمقصود بها دعوة الناس إلى الإسلام بالقول والعمل، وقال عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب معاذ بن جبل، وقد أرسله إلى أهل اليمن
يدعوهم إلى الله تعالى: «إِنَّكَ تَاتِي قَوْمًا مِن أَهْلِ الكِتَابِ، فَادْعُهُم إِلَى شَهَادَةِ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُوْلُ اللهِ، فَإِنْ هُم أَطَاعُوْكَ لذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُم أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِم خَمْسَ صَلَوَاتٍ ……….. إِلَى آخِرِ الحَدِيْثِ» ( صحيح البخاري برقم (1458)، وصحيح مسلم برقم (19) واللفظ له)
وروى البخاري من حديث عبد الله بن عمر: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» (سبق تخريجه.)
قال ابن القيم رحمه الله «إذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلَّها وأفضلها، فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لابد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى أقصى حد يصل إليه السعي، ويكفي هذا في شرف العلم أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء» (التفسير القيم (ص: 319).
وقال الشيخ عبد العزيز رحمه الله: «الواجب على جميع القادرين من العلماء، وحكام المسلمين، والدعاة، الدعوة إلى الله عز وجل حتى يصل البلاغ إلى العالم كافة في جميع أنحاء المعمورة، وهذا البلاغ الذي أمر الله به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
فالرسول عليه البلاغ، وهكذا الرسل جميعًا عليهم البلاغ صلوات الله وسلامه عليهم، وعلى أتباع الرسول أن يبلغوا … إلخ» ( مجموع فتاوى ومقالات الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله (1/ 333) نقلاً عن كتاب نضرة النعيم (5/ 1959، 1960).
الوصية الثالثة: حفظ الوقت
فمن الملاحظ أن بعض الشباب لا يحرص على استغلال وقته، واغتنام شبابه ونشاطه، فتجده ينام الساعات الطوال من غير حاجة، والآخر يضيع وقته في قراءة الجرائد لفترات طويلة، وآخر في الزيارات الكثيرة، وهَلُمَّ جَرًّا.
روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ؟ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَ عَلِمَ؟» (رقم (2416) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 289) برقم (1969).)،
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» (مستدرك الحاكم (5/ 435) برقم (7916) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1077).
ويقول الشاعر:
والوَقْتُ أَنْفسُ ما عُنِيتَ بِحفْظِهِ … وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَليك يضِيعُ
الوصية الرابعة: حسن الخلق
قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]،
روى الترمذي في سننه، من حديث أبي الدرداء: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيْزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِن خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ» ((4/ 362) برقم (2002) وقال: حديث حسن صحيح.)،
قال ابن المبارك: «حُسْنُ الخُلُقِ طَلَاقَةُ الوَجْهِ، وَبَذْلُ المَعْرُوْفِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَأَن تَحْتَمِلَ مَا يَكُوْنُ مِنَ النَّاسِ».
وبهذا كان – صلى الله عليه وسلم – يوصي أصحابه، فروى الترمذي في سننه من حديث أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» (سنن الترمذي برقم -1987- وقال: حديث حسن صحيح).
قال ابن القيم: «جمع النبي – صلى الله عليه وسلم – بين تقوى الله وحسن الخلق، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه». اهـ (الفوائد (84 – 85).)،
ولا يكتمل إيمان عبد مالم يوفق للخلق الحسن، روى الترمذي من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أَكْمَلُ المُؤْمِنِيْنَ إِيْمَانًا أَحْسَنُهُم خُلُقًا، وَخِيَارُكُم خِيَارُكُم لِنِسَائِهِم خُلُقًا» (برقم -1162- وقال حديث حسن صحيح.).
ولقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – أحسن الناس خلقًا، فمن أحب أن يهتدي إلى معالي الأخلاق فليقتد بمحمد – صلى الله عليه وسلم -. فعن أنس – رضي الله عنه – قال: «خَدَمْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلاَ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟» (سنن الترمذي برقم -2015- وأصله في الصحيحين.)
الوصية الخامسة: الثبات على هذا الدين
قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر: 99]، أي الموت، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]،
روى الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوْبِ ثَبِّتْ قَلبِي عَلَى دِيْنِكَ» (سبق تخريجه.)،
وقد وردت الأحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – تبين أن المتمسكين بدينهم في آخر الزمان، الثابتين عليه يكونون غرباء، ولكنهم بذلك ينالون من الأجر مثل ما ناله أصحاب.
النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما كان الإسلام غريبًا، وذلك بصبرهم عليه حال الغربة، روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيْبًا، وَسَيَعُوْدُ غَرِيْبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوْبَى لِلغُرَبَاءِ» (برقم -145.)،
وجاء في الحديث الآخر أنهم: «أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» (قطعة من حديث في مسند الإمام أحمد (11/ 231) برقم (6650) وقال محققوه: حديث حسن لغيره.)، وذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن القابض على دينه في آخر الزمان كالقابض على الجمر،
روى الطبراني في معجمه الكبير من حديث عتبة بن غزوان أخي بني مازن بن صعصعة وكان من الصحابة أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إِنَّ مِنْ وَرَاءِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، المُتَمَسِّكُ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» قالوا: يا نبي الله أَوَمِنْهُم، قال: «بَلْ مِنْكُمْ» (سبق تخريجه).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما ذكر ما يحصل في آخر الزمان من الفتن، قال: «المُتَمَسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ أو قال: عَلَى الشَّوْكِ» ( سبق تخريجه.).
فأوصي نفسي، وإخواني بالثبات على ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، والصبر على ذلك قال تعالى: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 – 3]، وقال تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ} [يونس: 109]، وقال تعالى: {وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ولا شك أن المسلم في هذه الأزمنة يواجه فتن الشهوات والملذات العظيمة، لكن من استعان بالله أعانه الله، ومن يتصبر يصبره الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69[
جعلنا الله وإياكم منهم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مقتطفات من كتاب ” الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة”
المجلد الأول الجزء الأول – للشيخ د. أمين بن عبد الله الشقاوي