الإمام سفيان الثوري
– الإمام سفيان الثوري
هذه ترجمة مختصرة لِعَلَمٍ من أعلام المحتسبين الأوائل, فقد اشتهر بالعلم, والزهد, والورع, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وغير ذلك من الخصال الجليلة.
نسبه ومولده:
“هو سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقِ… ابْنِ ثَوْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، شَيْخُ الإِسْلامِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الثَّوْرِيُّ، الْكُوفِيُّ، الفقيه, سَيِّدُ أَهْلِ زَمَانِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا, فَهُوَ مِنْ ثَوْرِ مُضَرَ، لا مِنْ ثَوْرِ هَمْدَانَ عَلَى الصَّحِيحِ.
مَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ”.
الثناء عليه رحمه الله:
قَالَ شُجَاعُ بنُ الوَلِيْدِ: “كُنْتُ أَحجُّ مَعَ سُفْيَانَ، فَمَا يَكَادُ لِسَانُهُ يَفتُرُ مِنَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، ذَاهِباً وَرَاجِعاً”.
قَالَ يَحْيَى بنُ يَمَانٍ: “سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُوْلُ: إِنِّيْ لأَرَى المُنْكَرَ، فَلاَ أَتكلَّمُ، فَأَبُولُ أَكدمَ دَماً.
قَالَ بِشْرٌ الحَافِي: “سُفْيَانُ فِي زَمَانِهِ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي زَمَانِهِمَا.
وهل هما إلا شيخا الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وغير ذلك من خصال الدين الجليلة, فالحسبة لها النصيب الأوفر من حياة هذا الإمام العظيم سفيان الثوري.
وَقَالَ أيضًا: “قَدْ كَانَ سُفْيَانُ رَأْساً فِي الزُّهدِ، وَالتَّأَلُّهِ، وَالخَوْفِ، رَأْساً فِي الحِفْظِ، رَأْساً فِي مَعْرِفَةِ الآثَارِ، رَأْساً فِي الفِقْهِ، لاَ يَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ, مِنْ أَئِمَّةِ الدِّيْنِ.
فهو رحمه الله يقول كلمة الحق ويعمل بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم.
مواقف الإمام سفيان الثوري الاحتسابية:
الموقف الأول: موقفه من أهل الإرجاء:
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: “مَرَّتْ بِنَا جِنَازَةُ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً، لَيْسَ فِيهَا سُفْيَانُ، وَلَا شَرِيكٌ”.
قَالَ مُؤَمَّلُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ: “مَاتَ عَبْدُ العَزِيْزِ بن أبي رواد، فَجِيْءَ بِجَنَازَتِه، فَوُضِعَتْ عِنْدَ بَابِ الصَّفَا، وَجَاءَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، فَقَالَ النَّاسُ: جَاءَ سُفْيَانُ، جَاءَ سُفْيَانُ, فَجَاءَ حَتَّى خَرَقَ الصُّفُوفَ، وَجَاوَزَ الجَنَازَةَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا؛ لأَنَّهُ كَانَ يَرَى الإِرْجَاءَ, فَقِيْلَ لِسُفْيَانَ، فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّيْ لأَرَى الصَّلاَةَ عَلَى مَنْ هُوَ دُوْنَه عِنْدِي، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُرِيَ النَّاسَ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى بِدعَةٍ”.
قال وكيع: “لَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْإِرْجَاءِ وَخَاصَمَ فِيهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُنْفَى مِنَ الْكُوفَةَ, أَوْ يُخْرُجَ مِنْهَا” إسناده حسن.
“تُوُفِّيَ عُمَرُ بنُ ذَرٍّ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَخَمْسِيْنَ وَمائَةٍ، وَكَانَ مُرْجِئاً، فَمَاتَ، فَلَمْ يَشهَدْهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ”.
الموقف الثاني: موقفه من الحسن بن صالح بن حي:
قَالَ العَلاَءُ بنُ عَمْرٍو الحَنَفِيُّ، عَنْ زَافِرِ بنِ سُلَيْمَانَ: “أَرَدْتُ الحجَّ، فَقَالَ لِيَ الحَسَنُ بنُ صَالِحٍ: إِنْ لَقِيْتَ أَبَا عَبْدِ اللهِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ بِمَكَّةَ، فَأَقْرِهُ مِنِّي السَّلاَمَ، وَقُلْ: أَنَا عَلَى الأَمْرِ الأَوَّلِ. فَلَقِيْتُ سُفْيَانَ فِي الطَّوَافِ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ الحَسَنَ بنَ صَالِحٍ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُوْلُ: أَنَا عَلَى الأَمْرِ الأَوَّلِ, قَالَ: فَمَا بَالُ الجُمُعَةِ؟!”.
قُلْتُ -أي: الذهبي-: “كَانَ يَترُكُ الجُمُعَةَ، وَلاَ يَرَاهَا خَلْفَ أَئِمَّةِ الجَوْرِ بِزَعْمِهِ”.
الموقف الثالث: موقفه ممَّن يسب الصحابة:
قَالَ الفِرْيَابِيُّ: “سَمِعْتُ سُفْيَانَ، وَرَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَنْ يَشتُمُ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: كَافِرٌ بِاللهِ العَظِيْمِ, قَالَ: نُصَلِّي عَلَيْهِ؟ قَالَ: لاَ، وَلاَ كَرَامَةَ, قُلْنَا: هُوَ يَقُوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، مَا نَصْنعُ بِهِ؟ قَالَ: لاَ تَمَسُّوهُ بِأَيْدِيْكُم، ارْفَعُوْهُ بِالخَشَبِ حَتَّى تُوَارُوْهُ فِي قَبْرِه”.
الموقف الرابع: وصيته الاحتسابية لعباد بن عباد:
“عَنْ حَفْصِ بْنِ عَمْرٍو، -وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ- قَالَ: كَتَبَ سُفْيَانُ إِلَى عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ: أَمَا بَعْدَ: فَإِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَوَّذُونَ أَنْ يُدْرِكُوهُ, وَلَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ لَنَا، وَلَهُمْ مِنَ الْقِدَمِ مَا لَيْسَ لَنَا, فَكَيْفَ بِنَا حِينَ أَدْرَكْنَاهُ عَلَى قِلَّةِ عِلْمٍ وَقِلَّةِ صَبْرٍ وَقِلَّةِ أَعْوَانٍ عَلَى الْخَيْرِ, وَفَسَادٍ مِنَ النَّاسِ, وَكَدَرٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَعَلَيْكَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، وَعَلَيْكَ بِالْخُمُولِ؛ فَإِنَّ هَذَا زَمَنُ خُمُولٍ، وَعَلَيْكَ بِالْعُزْلَةِ وَقِلَّةِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ؛ فَقَدْ كَانَ النَّاسُ إِذَا الْتَقَوْا يَنْتَفِعُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ ذَهَبَ ذَاكَ, وَالنَّجَاةُ فِي تَرْكِهِمْ فِيمَا نَرَى، وَإِيَّاكَ وَالْأُمَرَاءَ أَنْ تَدْنُوَ مِنْهُمْ وَتُخَالِطَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ فَيُقَالَ لَكَ: تَشْفَعُ وَتَدْرَأُ عَنْ مَظْلُومٍ أَوْ تَرُدُّ مَظْلِمَةً؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خَدِيعَةُ إِبْلِيسٍ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَهَا فُجَّارُ الْقُرَّاءِ سُلَّمًا، وَكَانَ يُقَالُ: اتَّقُوا فِتْنَةَ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ الْفَاجِرِ؛ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ فْتُونٍ، وَمَا لَقِيتَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ وَالْفُتْيَا فَاغْتَنِمْ ذَلِكَ وَلَا تُنَافِسْهُمْ فِيهِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ كَمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُعْمَلَ بِقَوْلِهِ أَوْ يُنْشَرَ قَوْلُهُ أَوْ يُسْمَعَ مِنْ قَوْلِهِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَاكَ مِنْهُ عُرِفَ فِيهِ، وَإِيَّاكَ وَحُبَّ الرِّيَاسَةِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ تَكُونُ الرِّيَاسَةُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ, وَهُوَ بَابٌ غَامِضٌ لَا يُبْصِرُهُ إِلَّا الْبَصِيرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّمَاسِرَةِ، فَتَفَقَّدْ نَفْسَكَ وَاعْمَلْ بِنِيَّةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَنَا مِنَ النَّاسِ أَمْرٌ يَشْتَهِي الرَّجُلُ أَنْ يَمُوتَ, وَالسَّلَامُ”.
الموقف الخامس: موقفه الاحتسابي مع الخليفة هارون الرشيد:
“ذكر الإمام ابن بليان والغزالي.. وغيرهما: “أن الرشيد لما ولي الخلافة زاره العلماء بأسرهم، إلا سفيان الثوري فإنه لم يأته، وكان بينه وبينه صحبة، فشق عليه ذلك، فكتب إليه الرشيد كتابًا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون أمير المؤمنين، إلى أخيه في الله سفيان بن سعيد الثوري، أما بعد يا أخي! فقد علمت أن الله آخى بين المؤمنين، وقد آخيتك في الله مؤاخاة لم أصرم فيها حبلك، ولم أقطع منها ودك، وإني منطو لك على أفضل المحبة، وأتم الإرادة، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله تعالى، لأتيتك ولو حبوًا؛ لما أجد لك في قلبي من المحبة، وأنه لم يبق أحد من إخواني وإخوانك إلا زارني وهنأني بما صرت إليه، وقد فتحت بيوت الأموال، وأعطيتهم المواهب السنية ما فرحت به نفسي، وقرت به عيني، وقد استبطأتك، وقد كتبت كتابًا مني إليك، أعلمك بالشوق الشديد إليك، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته، فإذا ورد عليك كتابي هذا فالعجل العجل, ثم أعطى الكتاب لعباد الطالقاني، وأمره بإيصاله إليه, وأن يحصي عليه بسمعه وقلبه دقيق أمره وجليله؛ ليخبره به.
قال عباد: فانطلقت إلى الكوفة، فوجدت سفيان في مسجده، فلما رآني على بعد، قام وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال: فنزلت عن فرسي بباب المسجد، فقام يصلي ولم يكن وقت صلاة، فدخلت وسلمت فما رفع أحد من جلسائه رأسه إلي، قال: فبقيت واقفًا وما منهم أحد يعرض عليَّ الجلوس، وقد علتني من هيبتهم الرعدة، فرميت بالكتاب إليه، فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه، كأنه حية عرضت له في محرابه، فركع وسجد وسلم، وأدخل يده في كمه، وأخذه وقلبه بيده، ورماه إلى من كان خلفه، وقال: ليقرأ بعضكم؛ فإني أستغفر الله أن أمس شيئًا مسه ظالم بيده, قال عباد: فمد بعضهم يده إليه، وهو يرتعد كأنه حية تنهشه، ثم قرأه فجعل سفيان يبتسم تبسم المتعجب، فلما فرغ من قراءته، قال: اقلبوه واكتبوا للظالم على ظهره، فقيل له: يا أبا عبد الله! إنه خليفة، فلو كتبت إليه في بياض نقي لكان أحسن، فقال: اكتبوا للظالم في ظهر كتابه؛ فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به، ولا يبقى شيء مسه ظالم بيده عندنا فيفسد علينا ديننا! فقيل له: ما نكتب إليه؟ قال: اكتبوا له:
بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد الميت سفيان، إلى العبد المغرور بالآمال هارون، الذي سلب حلاوة الإيمان، ولذة قراءة القرآن، أما بعد، فإني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك، وقطعت ودك، وإنك قد جعلتني شاهدًا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك، بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه, وأنفذته بغير حكمه, ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني، حتى كتبت إليَّ تشهدني على نفسك، فأما أنا قد شهدت عليك، أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك، وسنؤدي الشهادة غدًا بين يدي الله الحكم العدل، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن، وأهل العلم يعني العاملين، أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل، أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟ فشدَّ يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جوابًا، وللبلاء جلبابًا، واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل، فاتق الله في نفسك؛ إذ سلبت حلاوة العلم والزهد، ولذة قراءة القرآن، ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالمًا، وللظالمين إمامًا، يا هارون قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت ستورًا دون بابك، وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون، ويشربون الخمر ويحدون الشارب، ويزنون ويحدون الزاني، ويسرقون ويقطعون السارق، ويقتلون ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم، قبل أن يحكموا بها على الناس! فكيف بك يا هارون غدًا إذا نادى المنادي من قبل الله: احشروا الظلمة وأعوانهم؟! فتقدمت بين يدي الله ويداك مغلولتان إلى عنقك، لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك، والظالمون حولك وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار، وكأني بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيئات غيرك في ميزانك، على سيئاتك بلاء على بلاء، وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيتك، واحفظ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في أمته، واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها واحدًا بعد واحد، فمنهم من تزود زادًا نفعه، ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإياك ثم إياك أن تكتب إليَّ بعد هذا فإني لا أجيبك، والسلام.
قال عباد: وألقى الكتاب منشورًا من غير طي ولا ختم، فأخذته وأقبلت به إلى سوق الكوفة، وقد وقعت الموعظة بقلبي, فناديت: يا أهل الكوفة! من يشتري رجلًا هرب إلى الله؟ فأقبلوا إليّ بالدراهم والدنانير، فقلت: لا حاجة لي بالمال, ولكن جبة صوف وعباءة قطوانية، فأُتِيتُ بذلك, فنزعت ما كان عليَّ من الثياب، التي كنت أجالس بها أمير المؤمنين، وأقبلت أقود الفرس الذي كان معي، إلى أن أتيت باب الرشيد حافيًا راجلًا، فهزأ بي من كان على الباب، ثم استؤذن لي، فلما رآني على تلك الحالة قام وقعد وجعل يلطم رأسه ووجهه، ويدعو بالويل والحرب، ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسل! ما لي وللدنيا, والملك يزول عني سريعًا! فألقيت الكتاب إليه مثل ما دفع إلي, فأقبل يقرؤه ودموعه تتحدر على وجهه، وهو يشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين قد اجترأ عليك سفيان، فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد, وضيقت عليه السجن، فجعلته عبرة لغيره، فقال هارون: اتركوا سفيان وشأنه يا عبيد الدنيا، المغرور من غررتموه، والشقي -والله حقًا- من جالستموه، إن سفيان أمة وحده, ولم يزل كتاب سفيان عند الرشيد يقرؤه دبر كل صلاة, ويبكي حتى توفي رحمه الله تعالى”.
وللإمام الثوري -رحمه الله- مواقف احتسابية كثيرة اكتفينا بما سبق.
أشهر مؤلفاته:
1- تفسير سفيان الثوري.
2- الفرائض للثوري.
3- حديث سفيان الثوري.
وفاته:
قال عبد الرحمن بن مهدي: “مرض سفيان بالبطن –أي: داء البطن- فتوضأ تلك الليلة ستين مرة حتى إذا عاين الأمر، نزل عن فراشه، فوضع خده بالأرض، وقال: يا عبد الرحمن! ما أشد الموت! ولما مات غمضته، وجاء الناس في جوف الليل، وعلموا”.
قال الذهبي: “والصحيح أن موته في شعبان سنة إحدى وستين ومائة”