التجارة مع الله – جمعه الفقير إلى رحمة الله محمد بوطاهر بن أحمد بن الشيخ الحساني
تعتبر التجارة مع الله من أجل التجارات وأفضلها، وهي توصل لرضا الله ، والفوز بجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه.
فعبادة الله تقدست أسمائه, واتباع أوامره وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم, والبعد عما نهى عنه , تعد من مقاصد الدين السليم للمؤمن.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) ) فاطر
فسبحان الله الذي وهبَنا ما نتاجر به ، ثم وفقنا إلى التجارة معه…
وسبحان الله الذي يمنحنا أحسن الأجر مقابل التجارة معه ، ويَزيدنا مِن فضله فوق أجورنا … فنعم التِجارة مع الله هذه …
فالمتاجرون مع الله يخلصون أعمالهم لله، ولا يرجون بها من المقاصد السيئة شيئا.
ويقول المولى سبحانه وتعالى في محكم التنزيل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13))الصف
وهذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين، لأعظم تجارة، وأجل مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم.
وعن أبي مالك الأشعري, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها.(رواه مسلم.)
يقول الرسول الكريم في الشطر الأخير من هذا الحديث “ كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها ” . فالناس في هذه الحياة الدنيا غادون مستغرقون في أمورها، ولكنهم بين إحدى حالين، حينما يبيع الواحد منهم نفسه، فإما أن يعتقها من عذاب الله تعالى وسخطه، إلى رضوانه وجنته ونعيمه، وإما أن يُوبقها بأن يهلك هذه النفس، ويجعل عاقبتها إلى خسرٍ في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وقد أخبر الله جل وعلا في كتابه الكريم أن هناك أناس من عباده المؤمنين عقدوا الصفقات معه ، صفقات الربح والفوز والفلاح،
قال تعالى :: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾207- البقرة.
فالمؤمن يبيع نفسه كلها لله جل وعلا ، ولا يستبقي منها بقية، فكل حياته لله عز وجل : في كل لحظةٍ ، وفي كل نفس، وفي كل تصرُّف، ولا يرجو من وراء هذا البيع لله جل وعلا غايةً إلا مرضاة الله سبحانه، ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء، بيعةٌ كاملة لا تردُّد فيها، ولا يلتلفُّت لتحصيل ثمنٍ من أثمان الدنيا …
وقد روي أن هذه الآية نزلت في صهيب الرومي حين أقبل مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلحقه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وأخرج ما في كنانته، وأخذ قوسه وقال: وأيم الله، لا تصلون إليَّ حتى أرمي ما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي منه شيء، ثم افعلوا بعد ذلك ما شئتم. فقالوا له: لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً لا مال لك، ولكن دلنا على مالك لنخلي سبيلك، وعاهدوه على ذلك ففعل، فلما وصل المدينة نزل قول الله سبحانه:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) ) فاستقبله الحبيب صلى الله عليه وسلم قائلاً: «ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى».المستدرك-الحاكم
وذكر أصحاب السير أن الأنصار رضوان الله عليهم لما اجتمعوا عند العقبة ليبايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعة الحرب على أن ينصروه ويمنعوه ليسلموا له الحكم في المدينة المنورة, قال له عبد الله بن رواحه رضي الله عنه: يا رسول الله، اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال عليه وآله الصلاة والسلام: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم»، فقالوا: يا رسول الله، وما لنا إن فعلنا؟ فقال عليه وآله الصلاة والسلام: «الجنة» قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل.(المعجم الأوسط) فنزل قول الله سبحانه ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التوبة)
فبشرى للمجاهدين في سبيل الله الذين باعوا أنفسهم لله سبحانه، وبشرى للعلماء العاملين للذين ساهموا بتضحياتهم وبمؤلفاتهم منذ الصدر الأول للإسلام, لنصرة دين الله الحنيف وإيصال معالمه لهذا الجيل . وبشرى للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وبشرى لمن باع نفسه , ابتغاء مرضات الله, تقدست أسماؤه… وهم الذين وصفهم الله عز وجل في قوله : مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)الأحزاب.
ولنا صور للصحابة في مجال التجارة مع الله, فقد كانوا لنا القدوة الحسنة, و لقد صبروا على الشدائد، وجاهدوا في سبيل الله وقدموا حياتهم فداء لهذا الدين الحنيف، ونذكر في هذا السياق, لا للحصر, محنة آل ياسر: فقد عذب عمار بن ياسر, وعذب أبويه عذابا شديدا, واستشهدا في العذاب.
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ: “ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ ، وَصُهَيْبٌ ، وَبِلَالٌ ، وَالْمِقْدَادُ ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ ” ، وحسنه الألباني في “صحيح ابن ماجة “150
وروى الحاكم (5666) عَنْ جَابِرٍ: ” أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِعَمَّارٍ وَأَهْلِهِ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ ، فَقَالَ : ( أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ، وَآلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ” وقال الحاكم : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وندرج مثالا آخر من أفعال الصحابة الذين, نصر الله هذا الدين على أيديهم. قال ابن مسعود: لما نزلت: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) قال أبو الدحداح: وإن الله يريد منا القرض؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم يا أبا الدحداح». قال: ناولني يدك، فناوله صلى الله عليه وآله وسلم يده: قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي -حائطاً فيه ستمائة نخلة- ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك. قال: أخرجي من الحائط فإني قد أقرضته لربي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كم من عذق رداح لأبي الدحداح». فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ .
فَقَالَتْ : رَبِحَ الْبَيْعُ – أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا “( الْعِذْقُ هُنَا بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَهُوَ الْغُصْنُ مِنَ النَّخْلَةِ).رواه أحمد وابن حبان والحاكم.
وكذاك الأعرابي الذي سمع قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة ) فقال :كلام من هذا؟ فقيل له: هو كلام الله. فقال: بيع والله مربح، لا نقيله ولا نستقيله، فذهب إلى الغزو فاستشهد.
و الله عز وجل وعد المؤمنين الذين يبيعون أنفسهم بأن لهم الجنة، قال تعالى: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ).111 – التوبة
هذا حال الصحابة الكرام البررة والتابعين, ونحن ولو شمرنا على سواعدنا, ما وصلنا لما وصلوا إليه من تقوى, و الله الخالق اللطيف الخبير يعَلِمَ سبحانه عجزنا عن مُوافاته حقَّه، وعجزَنا عن شكر ولو نعمة واحدة مِن نِعمهِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ويعلم ضعْف همتنا إلى الخير ومسارعتنا إلى الشر, فسبحان من تجاوز عنا وهدانا إلى صراطه المستقيم, وشملنا برحمة ومغفرة منه, وهو الغفور الرحيم بعباده, , فسبحانه من عَدل ٍكريم.
وكيف لنا أن لا نهتدي للتجارة مع الله وقد أكرمنا الله بالقرآن الكريم بسنة رسول الله وخاتم الأنبياء سيدنا وحبيبنا محمد, عليه أفضل الصلاة والتسليم : منهاجا متكاملا في كيفية المتاجرة مع الله .
قال الله عز وجل; لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) الأحزاب
فرسول الله صلى عليه وسلم قد بلغ الرسالة ونصح الأمة وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لحديث رواه ابن ماجه عن العرباض بن سارية قال: “وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: ” قد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد.”
والتجارة مع الله تكون بتوفيق من الله عز وجل لقوله عز وجل: يهدي الله لنوره من يشاء – النور 25. وقد جاء في تفسير ابن كثير , حديث رواه رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “ إن الله خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ ، فمن أصاب يومئذ من نوره اهتدى ، ومن أخطأه ضل . فلذلك أقول : جف القلم على علم الله عز وجل “مسند أحمد 11/219
وأصل التجارة مع الله الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقضاء خيره وشره.
و قد جاء ذكر أركان الإيمان في الكتاب و السنة, في قوله عزّ وجل: “ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ” (البقرة, الآية 285).
و قوله صلّى الله عليه و سلم عندما سئل عن الإيـمـان: “أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر, و تؤمن بالقدر خيره و شره” (رواه مسلم .
ويكتمل إيمان المؤمن بمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, إذ هي من أفضل أعمال القلوب وأجلها . وقد علمنا قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحب لله وفي الله,, هو أرقى أنواع الحب وأخلصه وأصفاه، لأنه كمال الإيمان فقال: “من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان“. رواه أبو داوود- 4681
ومن موجبات محبة الله عز وجل أن تكون محبته سبحانه وتعالى أحب إليك من كل ما سواه, ومحبة الله تقتضي طاعته وترك المعاصي والتوبة إليه وحب أوليائه ورسله وكراهة أعدائه وبغضهم في الله عز وجل .
قال تعالى : وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69- النساء)
ومن يطع الله ورسوله, فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ، ويجعله مرافقا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة ، وهم الصديقون ، ثم الشهداء ، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم .
والتجارة مع الله تكون للذين لا يريدون في الأرض علوا ولا فسادا , يتأدبون مع الله, ويتأدبون مع خلق الله. فلا يعقل أن نريد التجارة مع الله و في قلوبنا ذرة من كبر.
فعن أبي هريرة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( قال الله عز وجل : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار).رواه مسلم وغيره
وتكون التجارة مع الله بأداء واجباتنا وفرائضنا وباتباع سنة نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم, وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
وقد ثبت في حديث رواه أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة، وإن كان انتقض منها شيئا قال انظروا هل تجدوا له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك. رواه النسائي .
ومن مظاهر التجارة الرابحة الإحسان للوالدين و معاملة الزوجة والأبناء والأقارب والجيران والناس كافة , بخلق حسن .
قال تعالى : وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) القصص
فليحافظ المؤمن على حقوقه وحقوق غيره. وليصل رحمه, ولا يحسد ولا يغتاب , ولا يظلم نفسه ولا يظلم غيره…
ففي حديث قدسي : عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِه عز وجل أنه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا … (رواه مسلم) . وهذا مناف لكمال الله تعالى وعدله ، فلذلك نزّه الله تعالى نفسه عن الظلم, فقال : { وما أنا بظلام للعبيد } ( ق : 29 ) ، وقال أيضا : { وما الله يريد ظلما للعباد } ( غافر : 31
وفي حديث آخر روي عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : “قال أتدرون ما المفلس. قالوا المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيقعد فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار ” رواه الترمذي.
فالمتاجرون مع الله, يعبدون الله مخلصين له الدين, يصبرون على أقدار الله المؤلمة , ويفوضون أمرهم إليه في جميع أحوالهم, تكون سريرتهم مثل علانيتهم . وقد مدحهم الله عز وجل بقوله :إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) الأحزاب
ويقول الله تعالى في صِفة المتاجرين معه, الرابحين بفضله: ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) . فهذه كلها مِن أنواع المتاجرة مع الله.
قال تعالى : وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) – لقمان
وقال تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4): الأنفال
وتكون التجارة مع الله للذين ذكرهم الله بقوله : إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ۩ (15) تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) السجدة
ومن مظاهر التجارة مع الله أداء الصلوات المفروضة في المسجد, في جماعة, وقرآءة القرآن الكريم وكثرة الذكر, والإكثار من النوافل, وصوم التطوع, والإنفاق في سبيل الله…
ويدخل في التجارة مع الله التطوع في قضاء حوائج الناس, لقوله صلى الله عليه وسلم : “لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً” [رواه ابن أبي الدنيا وحسنه الألباني].
ومن مظاهرها أيضا, حضور دروس العلم في المساجد: لقوله صلى الله عليه وسلم : “من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاماً حجته” [رواه الطبراني وصححه الألباني وقال العراقي إسناده جيد].
والتجارة مع الله تعود بالنفع على المؤمن, فيجد مقابل ما عمل من حسنات وعمل صالح, مدخرا عند الله وأعظم أجرا يوم القيامة،
قال تعلى : وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20) المزمل
وعن أبي هريرة رضي الله عنه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إلا الصوم ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي. صحيح مسلم
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))؛ متفق عليه.
و قال تعالى : فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) السجدة
قال القرطبي في تفسيره أن الله تعالى أخبر بما لهم من النعيم الذي لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك . وفي معنى هذه الآية : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قال الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر – ثم قرأ هذه الآية – تتجافى جنوبهم عن المضاجع – إلى قوله – بما كانوا يعملون ) أخرجه في الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعدي .
وختاما , فالتجارة مع الله تجارة رابحة, جزاؤها النجاة من النار والفوز بالجنة وبصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبصحبة عباده الصالحين وبالنظر إلى وجه ربنا الكريم في الآخرة.
فالجنة هي الثمن العظيم لمن جد واجتهد وباع نفسه إلى الله وسلمها له جهادا في طاعته واستعملها في مرضاته، وكفها عن محارمه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة – سنن الترمذي
وفي المقابل, التجارة الخاسرة , تجارة مع الشيطان وحزبه, لا تتعدى الدنيا, تدعو إلى الهوى والضلال والانحراف والهوى ؛ والعياد بالله ,
فعن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما من خارج يخرج -يعني من بيته- إلا ببابه رايتان: راية بيد ملك، وراية بيد شيطان، فإن خرج لما يحب الله -عز وجل- اتبعه الملك برايته، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته، فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته)) أخرجه أحمد (14/41)، رقم: (8286)
وسوء الخلق مع الله والعباد والسعي إلى الإفساد في الأرض , تجارة خاسرة, يدعوا إليها الشيطان الرجيم وحزبه.
قال الله عز وجل: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204 – 206].
و التجارة مع الله تكون وجوبا, بالابتعاد عما نهى عنه الله سبحانه من سوء خلق, ومن فواحش ومنكرات وكبائر و اتباع لسبل الشيطان…. و تكون أيضا بالصمت و الإمتناع عن فضول الكلام , لأن آفات اللسان تدعوا إلى الهلاك…
فاختر لنفسك يا عبد الله , تجارة مع الله , تجارة لن تبور , وكن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا “لأن الدنيا والآخرة ضرتان لا تجتمعان في قلب واحد ” .
وأكتفي بهذا القدر , وأقول قولي هذا واستغفر الله لما أخطأت فيه والله ولي التوفيق.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد في الأولين وصل وسلم وبارك عليه في الآخرين. وصل وسلم وبارك عليه في الملأ الأعلى إلى يوم يبعثون. وصل وسلم وبارك على آله وأزواجه أمهات المؤمنين, وعلى وأصحابه الطيبين الطاهرين, وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين. والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
– القرآن الكريم
– تفسير القرطبي
– تفسير الطبري
– تفسير ابن كثير
– تفسير السعدي
– التجارة الرابحة مع الله – شاهر أبو عبد الرحمن أبو الفيلات
– التجارة مع الله من أربح التجارات – د.خالد بن عبد الرحمن الشايع