– الحياة الطيبة – الشيخ محمد مختار الشنقيطي
إن للحصول على الحياة الطيبة أسباباً، ألا وهي التوبة من المعاصي، واستشعار النعمة، وفعل الفرائض، وترك النواهي، فبفعل هذه الأسباب يصبح العبد قريباً من الله عز وجل، حينها سينال الحياة الطيبة، وسيعيش السعادة الحقيقية بقربه سبحانه. ومن أهم الثمرات للحياة الطيبة استجابة الدعاء، فلنحرص على الحصول على هذه الحياة الطيبة.
التوبة واستشعار نعم الله من أسباب الحصول على الحياة الطيبة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده فاطر الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى والمجتبى لخير الرسالات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم تتفطر فيه الأرض والسماوات.
أما بعد:
أيها الأحبة في الله! الحديث عن الحياة الطيبة هو الحديث الذي ينبغي أن يعيشه كل واحد منا؛ لأن الحياة إما للإنسان وإما عليه، تمر ساعاتها ولحظاتها وأيامها وأعوامها على الإنسان، وتقوده إلى المحبة والرضوان؛ حتى يكون من أهل الفوز والجنان، أو تمر عليه فتقوده إلى النيران، وإلى غضب الواحد الديان.
الحياة إما أن تضحكك ساعة لتبكيك دهراً، وإما أن تبكيك ساعة لتضحكك دهراً، الحياة إما نعمة للإنسان أو نقمة عليه، هذه الحياة التي عاشها الأولون وعاشها الآباء والأجداد، وعاشها السابقون، وصاروا إلى الله عز وجل بما كانوا يفعلون، الحياة معناها كل لحظة تعيشها، وكل ساعة تقضيها، ونحن في هذه اللحظة نعيش حياة إما لنا وإما علينا، فالرجل الموفق السعيد من نظر في هذه الحياة وعرف حقها وقدرها، فهي والله حياة طالما أبكت أناساً فما جفت دموعهم، وطالما أضحكت أناساً فما ردت عليهم ضحكاتهم ولا سرورهم.
أحبتي في الله! الحياة الدنيا جعلها الله ابتلاءً واختباراً وامتحاناً تظهر فيه حقائق العباد، ففائز برحمة الله سعيد، ومحروم من رضوان الله شقي طريد، كل ساعة تعيشها إما أن يكون الله راضياً عنك في هذه الساعة التي عشتها، وإما العكس والعياذ بالله، فإما أن تقربك من الله، وإما أن تبعدك من الله، وقد تعيش لحظة واحدة من لحظات حب الله وطاعته تغفر بها سيئات الحياة، وتغفر بها ذنوب العمر، وقد تعيش لحظة واحدة تتنكب فيها عن صراط الله، وتبتعد فيها عن طاعة الله؛ تكون سبباً في شقاء الإنسان في حياته كلها، نسأل الله السلامة والعافية.
فهذه الحياة فيها داعيان: داعٍ إلى رحمة الله ورضوان الله ومحبته، وأما الداعي الثاني: فهو داعٍ إلى ضد ذلك، من شهوة أمارة بالسوء، أو نزوة داعية إلى خاتمة السوء، والإنسان قد يعيش لحظة من حياته يبكي فيها بكاء الندم على التفريط في جنب ربه، يبدل الله بذلك البكاء سيئاته حسنات، وكم من أناس أذنبوا، وكم من أناس أساءوا، وكم من أناس ابتعدوا وطالما اغتربوا عن ربهم، فكانوا بعيدين عن رحمة الله، غريبين عن رضوان الله، وجاءتهم تلك الساعة واللحظة وهي التي نعنيها بالحياة الطيبة؛ لكي تراق منهم دمعة الندم، ولكي يلتهب في القلب داعي الألم؛ فيحس الإنسان أنه قد طالت عن الله غربته، وقد طالت عن الله غيبته؛ لكي يقول: إني تائب إلى الله، ومنيب إلى رحمته ورضوانه!
وهذه الساعة ساعة الندم هي مفتاح السعادة للإنسان، وكما يقول العلماء: إن الإنسان قد يذنب ذنوباً كثيرة، ولكن إذا صدق ندمه وصدقت توبته بدل الله سيئاته حسنات، فأصبحت حياته طيبة بطيب ذلك الندم، وبصدق ما يجده في نفسه من الشجا والألم، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحيي في قلوبنا هذا الداعي إلى رحمته، وهذا الألم الذي نحسه من التفريط في جنبه.
أحبتي في الله! نريد من كل واحد منا أن يسأل نفسه سؤالاً عن الليل والنهار، كم يسهر من الليالي؟! وكم يقضي من الساعات؟! كم ضحك في هذه الحياة؟! وهل هذه الضحكة ترضي الله عز وجل عنه؟ وكم تمتع في هذه الحياة؟! وهل هذه المتعة ترضي الله عز وجل عنه؟ وكم سهر؟! وهل هذا السهر يرضي الله عنه؟ وكم وكم..؟ يسأل نفسه أسئلة، وقد يبادر الإنسان ويقول: لماذا أسأل هذا السؤال؟
نعم! تسأل هذا السؤال؛ لأنه ما من طرفة عين ولا لحظة تعيشها إلا وأنت تتقلب في نعمة الله، ومن الحياء والخجل مع الله أن نستشعر عظيم نعمة الله علينا، وأن نحس أننا نطعم طعام الله، وأننا نستقي من شراب خلقه الله، وأننا نستظل بسقفه، وأننا نمشي على أرضه، وأننا نتقلب في رحمته، فما الذي نقدمه في جنبه؟ فليسأل الإنسان نفسه.
يقول الأطباء: إن في قلب الإنسان مادة لو زادت (1%) أو نقصت (1%) مات في لحظة، فأي لطف وأي رحمة وأي عطف وأي حنان من الله يتقلب فيها الإنسان.
يسأل الإنسان نفسه عن رحمة الله فقط: إذا أصبح الإنسان وسمعه معه، وبصره معه، وقوته معه، فمن الذي حفظ له سمعه؟ ومن الذي حفظ له بصره؟ ومن الذي حفظ له عقله؟ ومن الذي حفظ له روحه؟ فليسأل نفسه من الذي حفظ عليه هذه الأشياء؟
من الذي يمتعه بالصحة والعافية؟ هاهم المرضى على الأسرة البيضاء يتأوهون ويتألمون، والله يتحبب إلينا بهذه النعم، يتحبب إلينا بالصحة، بالعافية، بالأمن، بالسلامة، كل ذلك فقط لكي نعيش هذه الحياة الطيبة.
من أسباب الحصول على الحياة الطيبة فعل الفرائض وترك النواهي
إن الله تعالى يريد من عبده أمرين:
الأمر الأول: فعل فرائضه.
والأمر الثاني: ترك نواهيه وزواجره، ومن قال: إن القرب من الله عز وجل فيه الحياة الأليمة أو فيه الضيق، فقد أساء الظن بالله، والله! إذا ما طابت الحياة في القرب من الله فلن تطيب بشيء سواه، وإذا ما طابت بفعل فرائض الله وترك محارم الله فوالله لا تطيب بشيء سواه، ويجرب الإنسان متع الحياة كلها فإنه والله لن يجد أطيب من متعة العبودية لله؛ بفعل فرائض الله وترك محارم الله.
أنت مأمور بأمرين: إما أن يأتيك الأمر: افعل أو لا تفعل، إذا قمت بفعل أي شيء في هذه الحياة فاسأل نفسك: هل الله عز وجل أذن لك بفعل هذا الشيء أم لم يأذن لك؟ فالأجساد والقلوب والأرواح ملك لله، ينبغي للإنسان إذا أراد أن يتقدم أو يتأخر أن يسأل نفسه، هل الله راضٍ عنه إذا تقدم؟ فليتقدم، أو الله غير راضٍ عنه؟ فليتأخر، فوالله ما تأخر إنسان ولا تقدم وهو يرجو رحمة الله إلا أسعده الله.
السعادة الحقيقية في القرب منه سبحانه
إن السعادة الحقيقية والحياة الطيبة تكون بالقرب من الله، القرب من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، فالأمر أمره، والخلق خلقه، والتدبير تدبيره، ولذلك تجد الإنسان دائماً في قلق وتعب، تجد الشخص يتمتع بكل الشهوات، ومع ذلك تجده من أكثر الناس آلاماً نفسية، وأكثرهم قلقاً نفسياً، وأكثرهم ضجراً بالحياة، واذهب وابحث عن أغنى الناس تجده أتعب الناس في الحياة، لماذا؟ لأن الله جعل راحة الأرواح في القرب منه، وجعل لذة الحياة في القرب منه، وجعل أنس الحياة في الإنس به سبحانه وتعالى.
والصلاة الواحدة يفعلها الإنسان من فرائض الله، بمجرد ما ينتهي من ركوعه وسجوده وعبوديته لربه فإنه ما يخرج من مسجده إلا ويحس براحة نفسية، والله لو بذل لها أموال الدنيا ما استطاع إليها سبيلاً، إذاً الحياة الطيبة في القرب من الله، والحياة الهنيئة في القرب من الله، إذا ما طابت الحياة بالقرب من الله فبمن تطيب؟
عوائق القرب من الله
هناك ثلاثة عوائق تمنعك من القرب من الله:
أولها: الشهوة التي تحول بينك وبين القرب من الله.
ثانيها: سوء الظن بالله.
ثالثها: الشيطان الذي أخذ على نفسه العهد أن يبعدك من الله عز وجل.
فأما الشهوة: فهي لذة ساعة وألم دهر.. شهوة اللهو واللعب الذي وصف الله عز وجل به هذه الحياة الدنيا أنها لهو ولعب، ولكن كم من أجساد لهت ولعبت وهي الآن تتقلب في عذاب القبور! وكم من أجساد لهت ولعبت ترى الآن الضنك في ضيق القبور! وكم من أناس الآن تضيق عليهم اللحود، هؤلاء يتمنون لحظة واحدة من ذكر الله وطاعته.
لن تعرف قيمة هذه الحياة ولا حقيقة هذه الشهوة التي دعت إلى معصية الله، إلا إذا جاء وقت فراق هذه الحياة، ولن تجد ندماً أصدق من ندم الإنسان إذا ودع هذه الحياة، وسيعرف الإنسان حقيقة الشهوة التي هي أول العوائق إذا فارق الحياة، وبمجرد أن تأتي لحظة الفراق تبكي بكاء الندم، ويقول الإنسان -ولو كان صالحاً-: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، يتمنى -ولو كان صالحاً- أن يرجع؛ لكي يزيد من صحيفة العمل، ولا يغتر الإنسان ويقول: إن هذه الساعة بعيدة؛ لأنه شباب، فكم من حوادث أخذت أناساً في عز الشباب وزهرته، وشدة النشوة واكتمال العمر، ولذلك ينبغي للإنسان أن يعرف حقيقة هذه الشهوة، والله عز وجل لم يحرمنا من الشهوة، ولا منعنا من اللذة، بل جعل للشهوة موضعاً ومكاناً معيناً، أميناً سليماً نقياً، ولا يأذن لك أن تضع الشهوة في غير هذا المكان.
أما الأمر الثاني من العوائق فهو: سوء الظن بالله، وبعض الناس إذا قلت له: أقبل على الله! يقول لك: يا أخي! لماذا تضيق عليّ؟! دعني أتمتع بالحياة! دعني أسهر وأتمتع بسهري، وأذهب وآتي وأتمتع بذهابي دون قيود أو حدود! يحس أن الحياة الضنكة والأليمة إذا اقترب من الله!! فوالله ثم والله! أنه لا أطيب من القرب من الله! ومن أراد أن يجدد لذة القرب من الله فليزدد من طاعة الله عز وجل، وليزدد من الصالحات، وليزدد من الأعمال التي تحبب إلى الله عز وجل، وتدعوه إلى مرضاته؛ حتى يحس ساعتها بلذة العبودية لله تبارك وتعالى.
أما الأمر الثالث الذي يعيق الإنسان عن طاعة الله ومحبته فهو: الشيطان الرجيم، وهذا الشيطان على نوعين: شيطان إنس، وشيطان جن، فمن أراد القرب من الله عز وجل فعليه أن يفر من شياطين الإنس وشياطين الجن، أما شياطين الإنس فهم الذين يزهدون في طاعة الله، وييئسون الإنسان ويقنطونه من رحمة الله، فينبغي للإنسان ألا يصغي إليهم، وليعلم أن الصديق الصادق في محبته ومودته وخلته، هو الذي يهدي إليه عيوبه، ويدعوه إلى محبة ربه وذل العبودية لخالقه.
وأما شيطان الجن فهي الوساوس التي يقذفها في قلب الإنسان، ويقول له: انتظر فلا زال في العمر بقية، ولا تعجل، وتمتع بهذه الحياة، تمتع بالشهوات فيها، واسهر ما شئت من الليالي، وافعل ما شئت من لذات هذه الحياة، فإن الحياة طويلة، ولا يزال يمنيه ويسليه حتى يسلمه إلى عاقبة الردى، نسأل الله جل وعلا أن يعصمنا وإياكم من ذلك.
كيفية اجتناب عوائق القرب من الله
إخواني في الله! الحياة الطيبة متمثلة في ظل مخالفة هذه الثلاثة الأمور، أما داعي الشيطان فيستبدله الإنسان بداعي الرحمن، وأما شياطين الإنس فيستبدلهم بدعاة الخير من الصالحين وعباد الله المتقين، وأما سوء الظن بالله فيبدله بحسن الظن بالله عز وجل.
أما إبدال داعي الشطان بداعي الرحمن؛ فاعرض نفسك على كتاب الله عز وجل، واجعل لك كل يوم جلسة مع القرآن، لا يحس الشاب أن هذا القرآن نزل لغيره، والله إنك مخاطب بالقرآن شئت أم أبيت، اقتربت أو بعدت، وكل إنسان يوم القيامة سيأتي هذا القرآن حجة له أو حجة عليه، لا يقول الإنسان: إن هذا القرآن لغيره، القرآن لك وأنت المخاطب به ولو كنت من أبعد الناس عن طاعة الله، فأنت مخاطب بهذا القرآن، وسيكون هذا القرآن حجة لك أو حجة عليك، واستبدال هذا الداعي وهو كتاب الله عز وجل ففيه طمأنينة القلوب، وانشراح الصدور، والله تعالى يقول في كتابه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فاعرض نفسك على كتاب الله لتعيش في رحمة الله إذ يخاطبك عز وجل، واعرض نفسك على داعي الله عز وجل بتحقيق ما أمر الله به في القرآن، وترك ما نهى الله عز وجل عنه في كتابه.
وأما إبدال دعاة السوء بدعاة الخير فالجلوس مع الصالحين، وغشيان حلق الذكر التي لا يشقى بهم جليس، فزيارة الصالحين، والأنس بهم ومحبتهم خير للإنسان في الدنيا والآخرة، والله هم القوم ونعم القوم، ما جلس إنسان مع رجل صالح إلا وجد منه الخير: لا يدعوه إلا لصلاح دينه ودنياه وآخرته، وأما قرين السوء فعلى العكس من ذلك، فهو الذي يدعو إلى محارم الله، ولو سأل الإنسان نفسه عن أي معصية فعلها لوجد وراءها داعي سوء، ووجد وراءها شيطان الإنس الذي حبب وسهل في الوصول إليها.
فيستبدل الإنسان الأشرار بالأخيار، ويقول للأخيار: أريد الجلوس معكم، أريد الأنس بكم، فيزورهم ويجلس معهم، ولذلك قد يأتي الرجل إلى مجلس من مجالس الذكر فيجلس مع الصالحين جلسة واحدة، وقد تكون هذه الجلسة سبب في نجاته من النار، وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله إذا أنزل أهل الجنة في الجنة، وتمتعوا بما هم فيه من النعيم، قالوا: يا ربنا! كيف نتنعم في الجنة وإخواننا يعذبون؟) إخوانهم من؟ أناس كانوا معهم ولكن كانت عندهم سيئات، مثلاً: رجل كان مع الصالحين ولكن عنده سيئات كأن يشرب الخمر، أو يزني، أو يفعل أي شيء من المحرمات -نسأل الله السلامة والعافية- فشاء الله أنه لم يتب من هذه الأشياء، لما جاء في يوم القيامة وأدخل النار، فإذا دخل ذلك الرجل الصالح -الذي جلس معه- الجنة يقول: يا رب! كيف أتنعم بنعيم الجنة وأخي يعذب؟ فيأذن الله عز وجل بالشفاعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا يزال الرجل يشفع حتى يشفع للرجل الذي جلس معه لحظة واحدة في ذكر الله عز وجل)، لحظة واحدة في ذكر الله عز وجل توجب للإنسان الشفاعة، فهذه من ثمار الجلوس مع الصالحين.
ومن ثمار الجلوس مع الصالحين: أن القلوب والصدور تنشرح وتطمئن بذكر الله عز وجل، ولذلك تجد الإنسان إذا جلس مع الصالحين يقوم ونفسه معلقة بالسماء، معلقة بطاعة الله، يريد أن يفعل أي خير يقربه إلى الله، والله ما جلس الإنسان مع صالح موفق إلا دله على الله، وهذا والله هو الصديق، الذي تقوم من عنده وحالك أصلح من حالك قبل الجلوس معه، بعض الناس مبارك إذا جلست معه تقوم من عنده وقلبك معلق بالله، وفؤادك وروحك تريد رضوان الله، لا تريد إلا شيئاً يدلك على الله، ولا تريد إلا خصلة من خصال الخير تقربك إلى الله، ومجلس واحد من ذكر الله عز وجل قد يجعل الإنسان يغير حياته كلها، إذا صدق في عبوديته لله، وتأثر بما يقال له من أوامر الله ونواهيه.
المقصود أن الجلوس مع الصالحين يعتبر من أهم الأسباب التي تدل الإنسان على ربه، والجليس الصالح هو الذي إذا نسيت الله ذكرك، وإذا ذكرت الله أعانك، والكلمة الطيبة من الرجل الطيب تستطيب بها القلوب، والنصيحة الصالحة من الرجل الصالح يصلح الله بها الأحوال، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم مجالس الصالحين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن مجالس الصالحين تغشاها الملائكة، وهي حلق الذكر التي تحفها الملائكة إلى السماء، ويطيب بها وقت الإنسان وتطيب بها حياته.
وأما استبدال سوء الظن بحسن الظن فهذا أمر مهم جداً لكل إنسان، فالله تعالى فوق ما تظن من الرحمة، إن تقربت منه شبراً تقرب منك ذراعاً، وإن تقربت منه ذراعاً تقرب منك باعاً، وإن أتيته تمشي أتاك هرولة، كل واحد ينبغي عليه أن يكون عنده شعور وعلم أنه لا أرحم به من الله عز وجل.
والله لو أن الإنسان حمل ذنوب هذه الحياة كلها وجاء في لحظة واحدة تائباً إلى الله، منكسراً بين يدي الله، يرجو رحمة الله، والله! لا يخيبه الله من رحمته، ولا يقنطه من روحه سبحانه وتعالى، فهو أكرم من سئل، وأعظم من رجي وأُمل، وفي قصص التائبين عبر، فإن الإنسان قد يتوب من ذنوب الحياة ويجعل الله عز وجل توبته في لحظة واحدة موجبة لغفران حياته كلها، ولذلك أصدق شاهد أن بعض الحجاج يقدم على الله عز وجل في هذه البلاد الطيبة، وعمره سبعون سنة وهو لا يعرف الله عز وجل، يعيش في معاصٍ وذنوب وسيئات، فيأتي إلى الله عز وجل في آخر عمره تائباً منيباً، لا تتمالك عينه الدمعة.
وهذه قصة أحد هؤلاء: كنت مع رجل من كبار أهل المدينة، وقال لي: في حج هذه السنة حصلت عبرة، يقول: كان هناك أحد أصدقائنا نخشى الجلوس معه من كثرة معاصيه، وكثرة ما يفعل والعياذ بالله من المعاصي، يقول: فشاء الله عز وجل في آخر حياته قبل الحج أن ابتلاه الله بمرض، فدخل المستشفى وأجريت له عملية، فخرج من المستشفى منهوك القوى، في حالة لا يعلمها إلا الله عز وجل، يقول: فجلس فترة النقاهة بعد العملية -وهذا قبل الحج بشهر تقريباً- فارتاحت واطمأنت نفسه، فشاء الله عز وجل مع المرض وما له في الإفاقة من المرض إلا أيام قليلة، واقتربت أيام الحج، وإذا به يصيح على أبنائه وهو رجل ثري في نعمة وجاه، يصيح على أبنائه ويقول: أريد الحج! قالوا: يا أبانا أنت ضعيف ومريض، وما تستطيع أن تحج وفيك عملية، قال: أريد الحج! فما كان من أبنائه إلا أن أعانوه على الحج، وكانت معه امرأته، فشاء الله عز وجل أن قدم إلى جدة، ومضى في اليوم السابع يريد الحج، وفي طريقه إلى مكة إذا به يتأوه ويتألم من قلبه، تقول زوجته حاكية عنه: جلس يقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم تقول له امرأته: ماذا بك يا فلان؟ قال لها: الموت، ثم قال: لا إله إلا الله وسقط ميتاً في ساعته.
هذا إن دل على شيء فإنما يدل على سعة رحمة الله، هذا الرجل حياته كلها بعيدة عن الله، وما انتقم الله عز وجل منه، والله قادر وهو جالس على المعصية أن يخسف به الأرض، فوالله لو أذن الله للأرض أن تنتقم من العاصي لخسفت به في لحظة واحدة، الله مالك الملك، له العزة والكمال والجلال، كل شيء في هذا الكون تحت أمره وقهره وملكه، سبحان الله! يعصيه الإنسان ومع ذلك يعطيه الصحة، ويمكنه من لذة المعصية، وهو قادر أن يسلب منه الروح في لحظة واحدة، ويستره وهو يفعل المعصية.
فسبحانه ما أحلمه! فهذا يفعل المعصية في عافية وصحة وستر! ثم مع ذلك يدعو الإنسان ويقول له: هلم إلى رحمتي، هلم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، عبدي! ما أريد منك إلا لساناً طيباً وعملاً طيباً، ما أريد منك غير هذا.
كذاب من يقول: إن القرب من الله فيه ضيق! لا والله، فالله لا يريد منك إلا كلاماً طيباً وفعلاً طيباً، وعقيدة ترضيه، ثلاثة أشياء فقط: قلب صالح نقي من الشوائب، ولسان طيب تقول به الكلام الطيب، وجوارح تسخرها في الشيء الطيب، لا شيء غير هذا أبداً، بدل ما كان الواحد يسب الناس، ويحتقر الناس، ويتكلم على الناس أصبح يتكلم بكلام طيب، ويحترم الناس، بدل ما كان يفعل الأمور التي لا تليق بأتفه الناس إذا به يحترم نفسه، ويفعل الأفعال التي تليق به كمسلم يؤمن بلقاء الله عز وجل، لا شيء غير هذا.
ما عندنا في الطاعة والشيء الطيب إلا هذه الثلاثة الأشياء: صلاح العقيدة، وصلاح القول، وصلاح العمل، ومن فعل هذه الثلاثة الأشياء عصمه الله عز وجل إلى أن يلقاه، وأوجب له حبه ورضوانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
إذا أتيت بهذه الثلاثة الأشياء أقسم الله عز وجل أن يحييك الحياة الطيبة، ولذلك لن تجد إنساناً يطيع الله ثم يخاف من غيره، وجرب فالخوف لا يأتي إلا من معصية الله.
فهذا الرجل حياته بعيدة عن الله، ويقسم لي رجل كبير السن وأعرفه في المدينة، وهو الآن في آخر حياته، ووالله لما قص لي القصة كانت دمعته على عينه، يقول لي: -سبحان الله! ما أحلم الله! وما ألطف الله! أن ختم له هذه الخاتمة الحسنة في آخر حياته!، على أي شيء يدل هذا؟ يدل على رحمة الله-: ليس هناك داعٍ لسوء الظن بالله، والشيطان يأتي الإنسان ويقول له: أنت فعلت وفعلت والله لا يغفر لك أبداً! وبمجرد ما يفعل الإنسان المعاصي -ولو عظمت- ويقول: اللهم إني تائب إليك! إذا بالله عز وجل يبدل تلك المعاصي حسنات، قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70].
هذا الكلام الذي نقوله لنا جميعاً، ليس لأناس وأناس، فالكلام لنا جميعاً؛ لأن المفروض أن يكون المؤمن في كل لحظة قريباً من الله، وليس أحد هناك إلا وهو يعصيه، وليس أحد هناك إلا وهو يذنب، فنحن مطالبون دائماً بهذه الثلاثة الأشياء التي توجب الحياة الطيبة.
ثمرات الحياة الطيبة
من ثمرات الحياة الطيبة: استجابة الدعاء
من ثمرات الحياة الطيبة: أنك إذا أقبلت على الله فهناك خصلة عجيبة وكريمة، ولو خسرت ما خسرت، لو خسرت الأصحاب والليالي الطيبة، فإن هناك شيئاً لم تخسره، وهو الله جل جلاله، إذا أقبلت على الله وفعلت هذه الثلاثة الأشياء: عقيدة صالحة، وقولاً طيباً، وعملاً طيباً، فلا ترفع كفك وتقول: يا رب! إلا أجاب الله دعوتك، ولا قلت: أسألك إلا أجاب الله سؤالك، ولذلك ورد في الحديث: (أن العبد إذا كان صالحاً أصبح معروفاً في السماء)؛ لأن العمل الصالح يصعد إلى الله عز وجل، فإذا صعدت منك الكلمات الطيبة فأنت دائماً تقول: لا إله إلا الله، أستغفر الله، وتذكر الله، وتتكلم بالكلام الطيب، وتحسن إلى الناس، وتفعل الأعمال الصالحة، إذا بالأعمال الصالحة تصعد، فإذا بكثرة الأعمال الصالحة تحبك بها الملائكة، ويجعل الله حب الملأ الأعلى لك في السماوات، فإذا جاء كرب من الكروب: جاءتك مشكلة، أو جاءك شيء تخافه، فقلت: يا رب! قالت الملائكة في السماء: صوت معروف من عبد معروف. وهذا الصوت معروف من عبد معروف، من هو؟ إنه المطيع لله عز وجل، عبد بلغ به أنه إذا دعا الله استجاب الله دعاءه، ما الذي ينقصه في هذه الحياة؟!
إذا أصبحت في لحظة بعبوديتك الخالصة وطاعتك الصادقة لله، وقلت: يا رب! أجاب الله دعاءك، فأي مقام، وأي منزلة وأي شرف أصبحت فيه؟ هذا هو العز، وهذا هو الجاه، وهذه هي الحياة الطيبة التي ينبغي لكل إنسان أن يفكر فيها، وأن يجتهد في تحصيلها.
فأكرر وأقول: أن الضيق كل الضيق في معصية الله، والسعة كل السعة في رحمة الله والقرب من الله عز وجل، ونسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى أن يرزقنا هذه الحياة الطيبة!
من ثمرات الحياة الطيبة: الاستقامة
أما الخصلة الثانية التي يجنيها صاحب هذه الحياة الطيبة فهي: خصلة الاستقامة، وهذه الخصلة ثمرتها أن أصحابها إذا شاء الله عز وجل أن يتوفاهم وهم عليها فما ما من إنسان إلا وهو سيخرج من هذه الدنيا قريباً أو بعيداً، وما أحد يضمن أن يقوم من مجلسه هذا، فلا بد من لحظة وهي: لحظة الفراق، فمن ثمرات الاستقامة الطيبة والعمل الصالح أن الإنسان إذا حانت ساعة قيامته، ودنت ساعة فراقه في هذه الحياة، كانت أطيب ساعة عنده ساعة لقاء الله عز وجل، فالناس عند الموت يخافون إلا صاحب الحياة الطيبة، إذا جاءه الموت يحس أنه في حنين وشوق إلى الله عز وجل، ولذلك تجد أصحاب الحياة الطيبة إذا دنت منهم سكرات الموت تجدهم في انشراح نفس وطمأنينة وراحة بال، وبعضهم يسلم الروح وهو يتبسم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، ممن حسنت خاتمته وكان من الذين قيل لهم: (( لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ))[الأعراف:49].. (( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ))[النحل:32] نسأل الله العظيم أن يجعل أسعد لحظة لنا في هذه الحياة، لحظة فراقها والخروج منها.
فهذه من الثمرات التي يجنيها الإنسان، وينبغي للإنسان أن يجتهد قدر استطاعته في هذه الأمور التي ذكرناها: صلاح الباطن، وصلاح الظاهر، وصلاح القول والعمل، لا تتكلم إلا وأنت تعرف أن الله يرضى عن كلامك، ولا تعمل إلا وأنت تعلم أن الله يرضى عن عملك، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه.