– تزكية النفس ومحاسبتها – محمد بوطاهر بن أحمد بن الشيخ
قال الله سبحانه وتعالى : وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) الشمس
والنفس هي مأوى كل حسنة وسيئة, وهي الملهمة تارة بالفجور, وأخرى بالتقوى, وهي نفس واحدة, ولكنها تعددت باعتبار تعدد صفاتها, فتكون أمارة, ثم لوامة, ثم مطمئنة, وهي غاية كمالها.
ولتنتقل النفس من مرتبة دنيئة إلى نفس مطمئنة, يجب علينا أن نزكي أنفسنا, لقوله عز وجل: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10) الشمس
وتزكية النفس تكون بالتقرب إلى الله, وبإخلاص العبادة لله, وتكون بالعمل الصالح والمداومة عليه, والبعد عن مواطن المعاصي, والتدُّرج في مجاهدة النفس ومخالفتها.
وتزكية النفس تكون بتوفيق من الله عز وجل, لقوله تعالى: بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً(49 )النساء
وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها, أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.” [1]
وقال أبو علي الجوزجاني رحمه الله : “النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد, فمن أراد الله تعالى هلاكه, منع منه التواضع والنصيحة والقناعة, وإذا أراد الله تعالى به خيرًا لطف به في ذلك, فإذا هاجت في نفسه نار الكبر, أدركها التواضع من نصرة الله تعالى. وإذا هاجت نار الحسد في نفسه, أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل, وإذا هاجت في نفسه نار الحرص, أدركتها القناعة مع عون الله عز وجل.”[2]
وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: “الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه, فملكته وأهلكته, وصار طَوْعًا لها تحت أوامرها, وقسم ظفروا بنفوسهم, فقهروها, فصارت طوعًا لهم منقادة لأوامرهم.”[3]
ومن أراد أن يجاهد النفس ويحد من الوساوس الشيطانية, فليقوي صلته بالله, وليتمسك بالعلم النافع, وليستعذ بالله السميع العليم, من الشيطان الرجيم, في جميع أحواله.
والواجب على المسلم أن يتذكر أن ملاذه إلى خالقه, وأن يحاسب نفسه, ويزن أفعاله مع شرع الله وسنة رسوله, عليه أفضل الصلاة والتسليم.
فمحاسبة النفس واجبة على الإنسان, في كل لحظة, وكل خطرة, وكل نفس, لكي لا يزيغ عن الطريق المستقيم, فيعرض نفسه للهلاك.
وقال الحسن البصري رحمه الله: “إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه, وكانت المحاسبة همته.”[4]
ولقد خلق الله عز وجل الإنسان لعبادته, وأنعم عليه بالصحة والعقل, ووهبه من الطيبات والملذات لينعم بها في حياته الدنيا, وشرع له منهاجا من الحقوق والواجبات : ما له وما عليه, ورسم له الطريق التي توصله إلى الصراط المستقيم. ولقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معالمه بقوله: “ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة, وعلى الأبواب ستور مرخاة, وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس, ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا, و وداع يدعو من فوق الصراط, فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك, لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. فالصراط: الإسلام, والسوران: حدود الله. والأبواب المفتحة: محارم الله, وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله, والداعي من فوق الصراط, واعظ الله في قلب كل مسلم.“[5]
فالإنسان السوي يكون على بينة من حدود الله, فيتقلب في الدار الدنيا, بين الخوف والرجاء : يحاسب نفسه باستمرار, فيتذكر عظمة الله وشدة عقابه, إذا هو خالف أمره ; ويتذكر رحمته وجوده وكرمه, فيحسن الظن بالله, ويعمل لآخرته, ويرجو عفوه ومغفرته.
والدنيا فانية… كما بدأت, ستنتهي… وهي كالحلم, تمر …مر السحاب, فالدنيا هي دار الغرور, والآخرة هي دار القرار.
فمن راقب نفسه وعمل للآخرة, كان جزاءه دار النعيم والرضوان, لقوله عز وجل : وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) غافر .
وبإيعاز من الشيطان الرجيم والنفس الأمارة بالسوء, يذنب الإنسان فيستغفر, ثم يغمره النسيان, فيذنب ويستغفر, ثم يعاود الكرة, والوقت يمر…
والدنيا فتنة تبهر الإنسان، فيضعف أمامها… ولكن الموت قد تباغته وهو في غفلة… فلا تنفعه الحسرة والندم…
قال الله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ ُبْلِسُونَ [6] (44) الأنعام.
فمن انغمس في الدنيا دون حدود, وانحرف عن الصراط المستقيم, فقد عرض نفسه للهلاك, كما جاء في قوله عز وجل : ,”فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(37) ” النزعات.
فيوم الحساب, سيتبين للإنسان أن الملك الموكل به, قد أحصى في كتابه, كل ذنب عمله في حياته, مصداقا لقوله عز وجل : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر -13 القيامة, فما يرى من عمله حسنا يسره ويفرحه, وما يرى من قبيح, يسوؤه ويغيظه, ويود لو أنه يتبرأ منه.
وقال تعالى : فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)الكهف.
ولشدة هول يوم القيامة على بني آدم, كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, يحسبون لها ألف حساب.
ولنا صور عظيمة وردت عن بعض الصحابة المبشرين بالجنة, تحكي شدة خوفهم من يوم الحساب, وحرصهم على محاسبة أنفسهم :
فهذا سيدنا أبو بكر الصديق يقول لسيدتنا عائشة رضي الله عنها, عندما كان يحتضر :” يا بنية إني أصبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذا الحلاب, وهذا العبد, فأسرعي به إلى ابن الخطاب.”[7]
وروي أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “قرأ سورة الطور حتى بلغ قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقع) [الطور:7], فبكى واشتد في بكاؤه حتى مرض وعادوه, وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه, فيبقى في البيت أياماً يعاد, يحسبونه مريضاً, وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء, وقال له ابن عباس رضي الله عنهما: مصر الله بك الأمصار, وفتح بك الفتوح وفعل، فقال عمر: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر.”[8]
و كان سيدنا عثمان بن عفان, ذو النورين, رضي الله عنه, إذا وقف على القبر بكى حتى تبلل لحيته، وقال: “لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.”[9]
وكان سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه, كثير البكاء والخوف، والمحاسبة لنفسه. وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى. وكان يوصي أصحابه بقوله : “إِنَّما أخشى عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ, طُولُ الأَمَل وَاتِّبَاعُ الْهَوَى, فَإن طُولُ الأَمَل يُنْسِي الآخِرَة, وَإن اتِّبَاعُ الْهَوَى يَصُدُّ عَنِ الْحَق, وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ ارتحلت مُدْبِرَة وَالآخِرَة مُقْبِلَة وَلِكُلِّ وَاحِدة مِنْهُمَا بَنُون, فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَة وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا, فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَاب, وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَل.”[10]
ومن أبلغ ما قيل في محاسبة النفس, قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا, فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم, وتزينوا للعرض الأكبر، (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).”[11]
وقد ذكر الإمام أحمد عن وهب رحمه الله قال: “مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلوا فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجعل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب.”[12]
وقال الحسن البصري رحمه الله: “المؤمن قوام على نفسه, يحاسب نفسه لله, وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا, وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.”[13]
وكان عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما يقول : “احرث لدنياك كأنك تعيش أبداً, واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.”[14]
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص أَنَّهُ: “من أصلح سريرته، أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومَن اهتم بأمر آخرته، كفاه الله أمر الدنيا، ومن اهتم بآخرته، كفاه الله أمر دنياه.”[15]
واليوم أكثر من وقت مضى، ينطبق على المسلمين قول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: “ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير، بل التفريط والأمن.” [16]،
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم لكل ذنب عظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. والحمد لله رب العالمين.
——————————————-
المراجع :
[1] صحيح مسلم-2722
[2] إحياء علوم الدين – أبي حامد الغزالي 3/322 ط.دار الفكر
[3] إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان- ابن قيم الجوزية-126 ط.دار عالم الفوائد
[4] إغاثة اللهفان ص132- ط.دار عالم الفوائد
[5] أخرجه الترمذي (2859)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11233)، وأحمد (17634)
[6] آيسون من كل خير
[7] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي المسمى الداء والدواء- ابن قيم الجوزية-ص.92-ط.دار عالم الفوائد
[8] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي المسمى الداء والدواء- ابن قيم الجوزية ص.40 (الزهد – أحمد بن حنبل-ص.103 دار الكتب العلمية)
[9] البحور الزاخرة في علوم الآخرة- محمد بن أحمد بن سالم السفاريني ج2-ص505
[10] تاريخ مدينة دمشق – ابن عساكر.ص.95- ج42- دار الفكر
[11] رواه ابن أبي الدنيا في “محاسبة النفس” ص22, وأحمد في ” الزهد ” ( ص 120), وأبو نعيم في ” الحلية ” (1/52), وضعفه الألباني في “السلسلة الضعيفة ” (1201)
[12] إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان-ابن قيم الجوزية-133 ط.دار الفوائد
[13] إغاثة اللهفان ص135- ط.دار عالم الفوائد
[14] تفسير القرطبي الآية 77 من سورة القصص
[15] رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وأورده شيخ الإسلام ابن تيمية في أوائل كتاب الإيمان الكبير ج7 من مجموع الفتاوى
[16] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي المسمى الداء والدواء- ابن قيم الجوزية-ص.91- ط.دار عالم الفوائد