عبد الله بن العباس
عبدالله بن عباس ( حبر هذه الأمة )
هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم, عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة, هيأه لهذا اللقب, ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه, واتساع معارفه.
لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل…
فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا, قَالَ:
((مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ, فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن ابن عباس]
في حديث آخر, عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, قَالَ:((ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن ابن عباس]
وفي رواية عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, قَالَ:
((ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ, وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ)) [متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن ابن عباس]
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي أَوْ عَلَى مَنْكِبِي, ثُمَّ قَالَ:
((اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ))
[أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عباس]
ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم, والمعرفة.
وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.
فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله, فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهد مجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول..
وبعد ذهاب الرسول إلى الرفيق الأعلى, و هو ابن الثالثة عشرة من عمره, أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم, والمعرفة و حرص على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه..
يقول عبد الله بن العباس عن نفسه:
” إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد, ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ويعطينا صورة لحرصه على إدراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:” لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله, فإنهم اليوم كثير.
فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون إليك, وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟
فترك ذلك, وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل, فآتي إليه وهو قائل في الظهيرة, فأتوسّد ردائي على بابه, يسفي الريح عليّ من التراب, حتى ينتهي من مقيله, ويخرج فيراني, فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت إلي فآتيك..؟؟ فأقول لا, أنت أحق بأن أسعى إليك, فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه”..!!
هكذا راح فتانا العظيم يسأل, ويسأل, ويسأل.. ثم يفحص الإجابة مع نفسه, ويناقشها بعقل جريء.
وهو في كل يوم, تنمو معارفه, وتنمو حكمته, حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم, وحصافتهم, وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!! سئل ابن عباس يوما:” أنّى أصبت هذا العلم”..؟فأجاب:” بلسان سؤول..وقلب عقول”..
هكذا صار ابن عباس” حبر هذه الأمة..ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:” ما رأيت أحدا أحضر فهما, ولا أكبر لبّا, ولا أكثر علما, ولا أوسع حلما من ابن عباس..ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات, وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس, ولا يجاوز عمر قوله”..
وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:” ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..ولا رأيت أحدا, أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..ولا أفقه في رأي منه..ولا أعلم بشعر ولا عربية, ولا تفسير للقرآن, ولا بحساب وفريضة منه..ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..وما رأيت عالما جلس إليه إلا خضع له, ولا سائلا إلا وجد عنده علما”..!!
وكان ابن عباس يمتلك إلى جانب ذاكرته القوية, بل الخارقة, ذكاء نافذا, وفطنة بالغة كانت حجته كضوء الشمس ألقا, ووضوحا, وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه, لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب, بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..
هذا الصحابي الجليل روي عن رسول الله ألفاً وستمائة وستين حديثًا صحيحًا، هذا الصحابي الجليل كان مرجعًا لسيدنا عمر، وهو عملاق الإسلام .
من مواعظ هذا الصحابي الجليل، أنه كان يقول:
((يا صاحب الذنب, لا تأمن عاقبة ذنبك ، واعلم أن ما يتبع الذنب أعظمُ من الذنب نفسه، إن عدم استحيائك ممن على يمينك وعلى شمالك، وأنت تقترف الذنب لا يقلُّ عن الذنب، وإن ضحكَك عند الذنب، وأنت تدري، أو أنت لا تدري ما الله صانع بك أعظمُ من الذنب، وإن فرحَك بالذنب إذا ظفرت به أعظمُ من الذنب، وإن حزنَك على الذنب إن فاتك أعظمُ من الذنب, وإن خوفك من الريح إذا حركت سترك, وأنت ترتكب الذنب مع كونك لا تضطرب من نظر الله لك أعظم من الذنب, يا صاحب الذنب, استغفر لذنبك, ما كان بعد الذنب أعظم من الذنب نفسه))
وعُمِّر هذا الصحابي الجيل إحدى وسبعين سنة، ملأ فيها الدنيا علماً وفهماً وحكمةً وتقى، فلما أتاه اليقينُ صلى عليه محمد بن الحنفية، والبقية الباقية من أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم، وجلَّة التابعين، وفيما كانوا يوارونه التراب سمعوا قارئاً لم يروه يقرأ قوله تعالى:
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[سورة الفجر الآية: 27-30]