فضل العشر من ذي الحجة
فضل العشر من ذي الحجة
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
العبادة علة وجود الإنسان :
أيها الأخوة الكرام : لنعالج موضوعاً نحن فيه وهو العشر من ذي الحجة ، الحقيقة أن هذا العشر من ذي الحجة موسم من مواسم الطاعات، وقد يسأل سائل : لمَ مواسم الطاعات ؟ المناسبات تجذب الإنسان إلى التوبة، وإلى مزيد من العبادة، أو لمضاعفة الجهد ، لأن العمر محدود، والإنسان قد يألف التقصير والخمول ، فتأتي هذه المواسم كالعشر من ذي الحجة ورمضان والحج هذه مواسم عبادات ، ولأن علة وجودك في الأرض أن تعبد الله ما من مثل أوضح من لو أن طالباً سافر لبلد لهدف واحد لا يزيد عليه ، ليأتي بشهادة عالية ، أمامه مئات الخيارات ، لا يتحرك في خيار أو سلوك إلا إذا خدم هدفه الكبير الذي جاء من أجله ، إن أراد أن يسكن في بيت يختاره قريباً من الجامعة ، إن أراد أن يصاحب واحداً اختاره طالباً متفوقاً ، إن أراد أن يتحدثَ يتحدث مع من يتقن لغة هذا البلد ، العبرة إن أراد أن يأكل الطعام يأكل الطعام الذي يعينه على الدراسة ، أمامه في بلد أجنبي مئات الألوف من الخيارات يختار منها ما يعينه على بلوغ هدفه ، فنحن في الأرض علة وجودنا عبادة الله عز وجل بالدليل النصي :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ سورة الذاريات ]
وما من مفهوم أصابه التشوّه كمفهوم العبادة ، هذا المفهوم كبير جداً مُسخ لفهم قاصر لأداء عبادات شعائرية أداء أجوفاً ، فكل دين الإنسان أن يصلي صلاة لا يتقرب بها إلى الله عز وجل ، وكأنه يطبق قاعدة فقهية أن سقط الوجوب وإن لم يحصل المطلوب ، ويحج بيت الله الحرام ، ويؤدي زكاة ماله ، وانتهى الأمر ، أما كسب ماله ، وإنفاق ماله ، أولاده ، بناته ، مناسبات أفراحه ، مناسبات أتراحه لا سمح الله كلها على النمط الغربي ، لذلك كيف ننتظر من الله أن يرحمنا أو يهدينا وينصرنا على أعدائنا وقد هان أمره علينا ؟ فلأن علة وجودك عبادة الله عز وجل والله عز وجل جعل لهذه العبادات نمطاً ثابتاً طوال العام الصلوات الخمسة هذه عبادة شعائرية ، عبادات تعاملية صدق ، أمانة ، عفة ، وفاء بالعهد، إنجاز للوعد ، إنصاف ، عدل ، رحمة ، خلق المسلم هي هذه القيم التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن فضلاً عن هذه العبادات الشعائرية والتعاملية هناك مواسم للطاعات لهذه المواسم قفزة نوعية !
حديث النبي عن الأيام العشر :
الحقيقة أنا لا أملّ من قول سيدنا سعد : ثلاثة أنا فيهن رجل وفيما سوى ذلك أنا واحد من الناس ، من هذه الثلاثة ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى ، فماذا حدثنا النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الأيام العشر .
((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )) [الترمذي عن ابن عباس]
قد يقول أحدكم : فلان بالحج هنأه الله بهذا ، وأنت أمامك فرصة وأنت في بيتك أن تلجأ إلى الله ، لحكمة أرادها الله ، إنسان يذهب وهو ميسور الحال لبيت الله الحرام ، وإنسان لم يتح له بسبب أو لآخر فبقي في بيته ، لكن في هذه الأيام العشر التي يحييها الحجاج بذكر الله وتلاوة القرآن والطاعات والعمل الصالح والتفرغ للعبادة ، وأنت أيضاً في هذه الأيام العشر بإمكانك أن ترقى إلى الله لقول عليه الصلاة والسلام فيما أخبر عن الله عز وجل : أن هذه الأيام أفضل أيام العام قاطبة ، ما العلة ؟ هذه عبادة ، الله عز وجل اختار هذه الأيام لتكون مواسم طاعة له ، لتكون استثنائية للتقرب إليه .
((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )) [الترمذي عن ابن عباس]
أي أراد أن يجاهد في سبيل الله فخرج بماله فاستشهد في هذه المعركة ، ولم يرجع بشيء .
راحة النفس في طاعة الله :
الحقيقة النمط الغربي نمط استهلاكي ، نمط راحة ، نمط استسلام للشهوات ، نمط على أن الدنيا هي دار قرار عند المسلم ، الدنيا دار عمل ، عند غير المسلم الدنيا دار راحة واستمتاع ، فلذلك الإنسان إذا أخلد إلى الأرض لا يجد هذه الرغبة في أن يعمل عملاً طيباً .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾[ سورة التوبة : 38 ]
أنت رضيت أن يكون نصيبك من الله هذه الدنيا ولا راحة فيها لا لمؤمن ولا لغير مؤمن ؟ لأن الله عز وجل قال :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾[ سورة طه: 124 ]
هذا قانون ، وقال بآية ثانية :
﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾[ سورة الرعد: 28 ]
بعض المفسرين تساءل وأجاب :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾[ سورة طه: 124 ]
ما بال الغني الذي يملك ألف مليون ؟! أية معيشة ضنك ؟ بيت وطعام وشراب وفرح ولقاءات وحفلات وسفر، ملك أية معيشة ضنك ؟ فأجاب وقال : ضيق القلب ، أحياناً يضيق قلب الإنسان كما قال الله عز وجل :
﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾[ سورة التوبة : 25 ]
لذلك راحة النفس في طاعة الله .
﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾[ سورة الرعد: 28 ]
شعورك أن الله يحبك ، أو راض عنك ، أو أنك تمشي في رضوان الله ، أو لك شيء عند الله بعد الموت ، هذا الشعور لا يقدر بثمن .
فوائد مواسم الطاعات :
من فوائد مواسم الطاعات أنها للترميم ، أو لمضاعفة الجهد ، أو للصلح مع الله ، دائماً يوجد قفزة ، العاصي قفزته للتوبة ، التائب قفزته لإتقان العبادة ، العابد قفزته للعلم ، المسلم قفزته للإيمان ، المؤمن قفزته للإحسان ، يوجد قفزة، هذا الحديث رواه الإمام البخاري.
يوجد حديث آخر رواه الدارمي :
((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى قِيلَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ قَالَ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ))[ الدارمي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]
هذا الحديث الثاني يؤكد الحديث الأول ، لا تحاول أن تفكر بمنطقية هذه الأيام العشر ، هذه عبادة .
الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به :
أيها الأخوة : الأمر إذا اتضحت حكمته إلى درجة عالية يضعف فيه عنصر العبادة ، وكلام خفيت حكمته ترتفع فيه درجة العبادة ، آلاف الأشخاص غير المؤمنين بالله يعتنون بصحتهم لأنها لصالحهم ، فحينما يتضح لك شيء ترى كل المصلحة فيه أن تقبل عليه لأنك تعبد ذاتك من دون الله ، ولأنك حريص على سلامتك وسعادتك ، أما حينما لا ترى مصلحة قريبة لك في هذا الشيء ولم تتضح لك حكمته فعندئذ يرتفع مستوى العبودية لله عز وجل .
لكن هناك ملاحظة دقيقة جداً وهي إنسان أمي لا يقرأ ولا يكتب عنده جهاز تكييف وكان الجو حاراً جداً ، ضغط المفتاح فجاءه الهواء البارد ، وهو لا يفقه ما في هذا الجهاز ، لا يعلم إلا معلومة واحدة أنه إذا فتح هذا المفتاح جاءه هواء بارد ، يأتي إنسان يحمل دكتوراه في الفيزياء ومعه شهادة في التصنيع وصاحب معمل مكيفات ويعرف أدق الدقائق في هذا الجهاز يأتي والجو حار فيفتح المفتاح فيأتيه الهواء البارد ، الهواء البارد جاء للاثنين للأمي وللعالم .
يوجد ملاحظة دقيقة قال العلماء : الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به ، قد تنتفع بالشيء ولا تعلم سره ، تنتفع بالفاكهة ولا تعلم سرّ تركيبها معنى ذلك طبق فيها العبادة ، أنت حينما تعبد الله تقطف كل ثمار العبادة من دون أن تكون عالماً بدقائقها وحكمتها ، فالخوض في حكم العبادات قد نفلح وقد لا نفلح ، لكن إذا طبقنا هذه العبادات نفلح يقيناً .
عظمة الله عز وجل :
هناك نصوص أخرى من كتاب الله على رأس هذه النصوص قوله تعالى :
﴿ وَالْفَجْرِ * ولَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [ سورة الفجر: 1-2]
قال بعض المفسرين : إنها الأيام العشر من ذي الحجة.
﴿ وَالْفَجْرِ * ولَيَالٍ عَشْرٍ ﴾[ سورة الفجر: 1-2]
وهذا ينقلنا إلى القسم في القرآن الكريم ، الإنسان بالعادة يقسم بعظيم تقول: والله، أنت إنسان فان ضعيف جاهل ، تقول: والله ، لكن إذا أقسم الله هل هناك جهة أعظم منه ؟ كماله وعظمته مطلقة ، يقول الله :
﴿ وَالْفَجْرِ ﴾[ سورة الفجر: 1]
أعجبني في توجيه بعض العلماء لهذه الآية أن الله عز وجل إذا أقسم بالشيء فليلفت أنظارنا إليه ، أو أنه إذا أقسم فبالنسبة إلينا ، وإن لم يقسم فبالنسبة إليه ، إذا قال :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾[ سورة الواقعة: 75]
هذه المسافات الشائعة بين النجوم ، أحدث رقم عشرون مليار سنة ضوئية !
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾[ سورة الواقعة: 75]
وكلمة مواقع لو قرأها عالم فلك لخرّ ساجداً ، لماذا ؟ لأن كلمة موقع لا تعني أن صاحب الموقع في الموقع ، هذا النجم الذي كان هنا انطلق منه ضوء وظلّ هذا الضوء يسري إلينا قرابة عشرين مليار سنة ثم وصل إلينا ، نحن حينما نرى نجماً في التليسكوب أي أن ضوءه وصل إلينا ، أين هو النجم ؟ بعض هذه المجرات سرعتها مئتان وأربعون ألف كيلو متر بالثانية ، كانت في هذه الجهة وانطلق ضوءها إلينا خلال عشرين مليار سنة ، وهذا النجم أين هو الآن ؟
فإذا أقسم الله بشيء فبالنسبة إلينا ، وإن لم يقسم فبالنسبة لذاته العلية أو إن أقسم بالشيء فليلفت أنظارنا إليه ، قال تعالى :
﴿ وَالْفَجْرِ ﴾[ سورة الفجر: 1]
هل الفجر قضية سهلة ؟ ! أنت على كرة وهذه الكرة تدور ، والشكل الهندسي الوحيد الذي إذا تحرك أمام منبع ضوئي يتداخل النور والظلام .
﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾[ سورة الحج: 61]
﴿ وَالْفَجْرِ * ولَيَالٍ عَشْرٍ ﴾[ سورة الفجر: 1-2]
تفسيرات أخرى للأيام العشر :
قال تعالى : طبعاً هناك تفسيرات أخرى لهذه الأيام العشر ، بعضهم قال في قوله تعالى :
﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾[ سورة الكهف: 25]
قد تحسب هذه السنوات على النظام الشمسي ثلاثمئة سنة ، أو على النظام القمري ثلاثمئة وتسع سنوات ، ففرق السنتين الشمسية والقمرية هذه الأيام العشر ، لعل أن تكون هذه الآية تشير للفرق بين السنة الشمسية والسنة القمرية ، وهذا شيء يتناسب مع سياق الآية ، إذا قلت مثلاً : ميناء وعقارب ، الميناء على الساحل لوقف القوارب ، العقارب حشرات مؤذية قاتلة ، لا يوجد تناسب ، أما لو كنت تتحدث عن الساعة وقلت: ميناء وعقارب ، ما معنى الميناء هنا؟ الساحة الدائرية للساعة ، والعقارب هذه المؤشرات التي تتحرك وتدور ، ممكن أن نفهم الأيام العشر تلك الأيام التي هي فاصلة بين السنة الهجرية والسنة القمرية ، ويمكن أن نقول كما قال بعض المفسرين : هذه الأيام هي الأيام العشر من ذي الحجة .
(( ابْنُ عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَرِهَ عُثْمَانُ رَضِي اللَّهم عَنْهم أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ ))[ البخاري عن ابْنُ عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا]
والقرآن حمّال أوجه وليس ملكاً لأحد ، والنبي عليه الصلاة والسلام شهد بأنها أفضل أيام الدنيا كما تقدم في الحديث الصحيح .
حثّ النبي على العمل الصالح في هذه الأيام :
الآن النبي عليه الصلاة والسلام حث فيها على العمل الصالح بشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار ، ولشرف المكان بالنسبة للحجاج والعمّار ، شرف المكان وشرف الزمان .
بالمناسبة الله عز وجل اصطفى من بين الأمكنة بيته الحرام ، واصطفى من بين الأزمنة شهر رمضان والعشر من ذي الحجة ، فاصطفى مكاناً واصطفى زماناً واصطفى إنساناً ،اصطفى المكان ليشيع فيه الصفاء ، ولنسحب هذا الصفاء على كل الأمكنة ، فإذا الحاج في بيت الله الحرام حصلت له هذه الصلة بالله عز وجل ، فالقصد أنه إذا عاد لبلده أن تنسحب هذه الصلة وهو في بلده ، فما اصطفى الله هذا المكان إلا ليشيع الصفاء في كل المكان ، وإذا اصطفى الله زماناً كرمضان أو كالعشر من ذي الحجة ما اصطفى هذا الزمان إلا ليشيع الصفاء في كل زمان ، الله عز وجل أرادك أن تقفز قفزة نوعية وتستمر ، أما مشكلة الناس أن هذه المواسم يطيعون الله فيها ، فإذا انتهت عادوا لما هم عليه من معصية وانحراف ، هؤلاء لا يرقون أبداً لله عز وجل لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حثّ في هذه الأيام على العمل الصالح ، لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار ، ولشرف المكان بالنسبة لحجاج بيت الله الحرام .
العمل الصالح الآن له أجر كبير ، ولا أكتمكم أن أبواب العمل الصالح لا تعد ولا تحصى وهي مفتحة على أبوابها ، فكل عمل صالح يقبله الله عز وجل إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنّة .
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام أمر في هذه الأيام بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير كما جاء في الحديث الشريف :
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ))[أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ]
التوحيد :
كتعليق على هذا الحديث أكثر من التهليل (لا إله إلا الله) ما علاقتها بالموضوع؟ يوجد لا إله إلا وحيد القرن ، يوجد شرك وخوف وعبادة غير الله وخضوع لغير الله ، وانبطاح لغير الله ، فكلمة لا إله إلا الله كلمة التوحيد ، لا فعال ولا معطي ولا مانع ولا قهّار ولا معز ولا مذل لضعف إيمان الناس يظنون أن العز أن يرضى هؤلاء الأقوياء عنا ، والذل أن يحاربونا ، هذا من ضعف الإيمان ، ما من وقت يحتاج فيه المسلمون إلى التوحيد كهذا الوقت .
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾[ سورة هود: 123 ]
الصلح مع الله :
مركبة عملاقة وفيها سبعة رواد فضاء قمم في الطيران وفيهم رائد إسرائيلي ، هو الذي قصف المفاعل النووي في العراق ، ظل يتدرب على الصعود إلى الفضاء أربع سنوات ، والأمور كلها على ما يرام ، ونقلت صورتهم إلى الأرض وهم يضحكون ، ويمرحون ، وبقي لهبوطهم في فلوريدا زمن قصير جداً ، فلما لامست هذه المركبة الغلاف الجوي احترقت وتناثرت ووقع أكبر جزء منها بحجم سيارة في منطقة في تكساس اسمها فلسطين، درس من السماء إلى الأرض ، أكبر قطعة من هذه المركبة وقعت في منطقة اسمها فلسطين ، وهذا الذي تدرب أربع سنوات وهو قمة في الطيران أهلكه الله بلا سبب مفهوم .
لذلك صرحت وكالة ناسا الفضائية أنها توقفت عن إرسال مركبات إلى الفضاء ريثما يعلمون ما سر احتراق هذه المركبة .
هذا يذكرني قبل أربع سنوات فيما أذكر لي صديق طبيب توفي رحمه الله كان في مكة المكرمة لقضاء عمرة في رمضان ، وفي يوم الختام يوم ختمة القرآن هناك دعاء الختام فإمام الحرمين ظل يبكي ويدعو الله أن يدمر أعداءنا ويقصد اليهود ، وكان التأثر بالغ والبكاء شديد ، في هذا الوقت بالذات طائرتان هيلكوبتر تحملان مئة وخمسة وعشرين ضابطاً مغوار إسرائيلي ، وكل واحد كلفته ملايين الدولارات ، يتقنون أي جهاز الكتروني ، اللغة العامية اللبنانية ، يتقنون اللغة الفصحى ، والسلاح الأبيض ، وأدق الأسلحة، هذا الواحد بألف، فجأة وقعت الطائرة العليا فوق الطائرة السفلى والطائرتان فوق مستعمرة في إسرائيل ، والكلام أنه لم تمنَ إسرائيل في تاريخها منذ أن تأسست بخسارة بشرية كهذه الخسارة ، مئة وخمسة وعشرون ضابطاً ، عندما فتحوا الصندوق الأسود وجدوا فيه الرسالة التالية : يقول الضابط قائد الطيارة العليا أنا أسقط ولا أدري لمَ أسقط ؟ إذا تدخل الله انتهى كل شيء لأننا نحتاج إلى صلح مع الله ، ونحن عندنا شعور أن هذه قوة عاتية ، لا هذه قوة تقهر وتذل بشرط أن نكون مع الله عز وجل ، حيثما نقيم الإسلام في بيوتنا وأعمالنا ….
التوبة إلى الله تقلب موازين القوى :
من يومين كنت في سهرة ودار نقاش قال أحدهم : ماذا نعمل ؟ قلت للحاضرين : لن تستطيعوا بمجموعكم ولا بمجموع الأمة الإسلامية ، المليار والسبعمئة مليون أن يفعلوا شيئاً ، لكن بإمكانهم أن يتوبوا إلى الله ، من حيث الحركة المادية لن يستطيعوا فعل شيء إلا إذا تابوا إلى الله ، إذا تابوا إلى الله الله عز وجل يقلب موازين القوى لصالحهم ، فإن لم يتوبوا الجواب:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾[ سورة الرعد: 11 ]
الإنسان الغربي متألّه ، يستكبر ويتغطرس ، يدّعي ما ليس له ، مع أن شأن العبد أن يكون متواضعاً لله عز وجل ، حينما فتح النبي عليه الصلاة والسلام مكة المكرمة دخلها مطأطئ الرأس .
كنت في تركيا وسمعت من صديقي الحميم أنه يوجد حفل ماجن في قاعدة بحرية، طبعاً يوجد ضباط وأتراك وإسرائيليون ومطربات وراقصات من تل أبيب ، حفل كبير، جرى في هذا الحفل شيء يقشعر منه البدن ، مزق المصحف ، في الساعة الثالثة هذه القاعدة بكل ما فيها من منشآت غاصت في أعماق البحر ، في زلزال إزميت ، هذا كان في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل !
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾[سورة البروج:12]
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾[سورة آل عمران: 12]
إعداد القوة المتاحة لأعدائنا :
لكن الله عز وجل أمرنا أن نعد لأعدائنا القوة المتاحة ، لا يوجد حل إلا أن نرجع لمنهج الله ، ونتوب إليه ، ونقيم الإسلام في بيوتنا وأعمالنا ، ونعد لأعدائنا القوة المتاحة ، والباقي على الله عز وجل ، وهذا غير متوفر ، لذلك قال تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾[ سورة الرعد: 11 ]
نحن نريد ونحلم ونحن قاعدون ومستريحون ونفعل ما نشاء من دون انضباط شرعي ، ونحن نقلد الأجانب ونستمتع بالشهوات المحرمة ، ونفعل ما نشاء ، ونكسب المال الحرام ، واختلاط ، وتجاوزات ، وتقصير ، ثم يأتي مدد من الله كالهدية ؟ هذا مستحيل لأن :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾[ سورة الرعد: 11 ]
بالتعبير المختصر غيّر ليغير الله ، لا تغير لن يغير .
للعمل الصالح في الأيام العشر أجر كبير :
أيها الأخوة : في هذه الأيام العشر العمل الصالح له أجر كبير ، وأمر عليه الصلاة والسلام بالتسبيح والتهليل والتكبير ، أن تقول : لا إله إلا الله بمعناها الحقيقي ، وتكبر أن تقول : الله أكبر ، لي تعليق لطيف على كلمة الله أكبر لو رددتها ألف مرة وأطعت مخلوقاً وعصيت خالقاً لم تقولها ولا مرة ولو نطقت بها ألف مرة ، لو أطعت زوجتك في معصية وعصيت الله ما قلتها ولا مرة ولو رددتها بلسانك ألف مرة ، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذه الباقيات الصالحات ، العبرة بمعناها المتمثل في نفسك ، لا بتردادها ترداداً شكلياً .
((عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ))[أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ]
هذه الأيام العشر فيها يوم عرفة ، و يوم عرفة يكفر ذنب من صامه ، من السنة أن نصوم هذا اليوم لغير الحجاج ، والحجاج لا يصومون ليتقووا على طاعة الله ، وفي هذه الأيام يوم النحر يوم عيد الأضحى ، هذه الأيام العشر – عشرة ذي الحجة – هذه الأيام ذكرها النبي في أحاديثه وأشارت إليها الآية في قوله تعالى :
﴿ وَالْفَجْرِ * ولَيَالٍ عَشْرٍ ﴾[ سورة الفجر: 1-2]
وفيها يوم النحر وهو يوم العيد ، ويوم عرفة وهو يوم من أعظم أيام العمر ، وفيها الأضحية والذبح ، فالأضحية هدية إلى الله عز وجل ، من الأعمال الفاضلة في هذه الأيام العشر الصيام لقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه :
(( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ))[البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
أفضل ما يفعل في أيام العشر :
1 ـ التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح :
إذا كان الإنسان قادراً أن يصوم الأيام العشر أفضل ، وإذا عنده أعمال لا يقدر أن يصوم ليكون أقوى على أداء مهمته فلابد من صيام يوم عرفة ، أما هو فالأولى أن تصام هذه الأيام كلها ، التكبير تقول : الله أكبر بمعناها على كل من طغى وتجبر ، وعلى وحيد القرن التكبير ، ما من وقت نحن في أمس الحاجة إلى التكبير كأن ترى أن الله أكبر من أي شيء في الكون والتحميد والتهليل والتسبيح في أيام العشر ، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، هذه الباقيات الصالحات :
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾[ سورة الكهف:46]
الرجال يجهرون بها ، والنساء تخفيها ، والآية الكريمة :
﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾[ سورة الحج: 28]
الأيام المعلومات عند ابن عباس هي الأيام العشر ، صفة التكبير الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ولله الحمد ، وإذا أحيا الإنسان هذه السنة :
(( مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنَ النَّاسِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِ النَّاسِ شَيْئًا وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ إِثْمِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنَ النَّاسِ لَا يَنْقُصُ مِنْ آثَامِ النَّاسِ شَيْئًا )) [ابن ماجة عن كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]
2 ـ الحج و العمرة :
طبعاً أفضل عمل في هذه الأيام الحج والعمرة ، إذا كان الإنسان في الحج أو العمرة يكون قد حقق الهدف الأكبر .
3 ـ الإكثار من الأعمال الصالحة :
أيضاً الإكثار من الأعمال الصالحة عموماً لأنها تقرب إلى الله عز وجل .
4 ـ الأضحية :
ومن أفضل هذه الأعمال الأضحية التي يذبحها الإنسان تقرباً إلى الله عز وجل .
(( مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا )) [أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
ذلك أن توزيع اللحم أفضل من توزيع المال ، المال قد يذهب سداداً لدين ، لكن اللحم لا يذهب إلا لبطون جائعة.
5 ـ التوبة النصوح :
ومن له تقصيرات ومخالفات أعظم عمل له في هذه الأيام العشر التوبة النصوح.
أيها الأخوة : هذا ما في الكتاب والسنة ، وما في أقوال العلماء حول هذه الأيام العشر ، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تنقلب هذه النصوص التي درسناها وبينت لكم دقائقها لسلوك في هذه الأيام العشر ، لكن بشكل عام المؤمن الصادق ملتزم في كل ثانية في حياته بطاعة الله ، وهذه المواسم في العبادات قفزات نوعية ، ذكرت أهم شيء التوبة لمن كان شارداً عن الله ، أما المؤمن فكل أيامه طاعة لله عز وجل ، وبذل ، وعطاء .
والحمد لله رب العالمين