الأخوة في الله
– الأخوة في الله (أربع خطب منبرية)
الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله
– الأخوة في الله – رقم 1
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَ لُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون، إننا اليوم بحول الله مع بداية سلسلة مباركة في موضوع هو من الأهمية بمكان، به نصير جميعا كرجل واحد، وبه نحقق قول نبينا عليه الصلاة والسلام: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وبه تتآلف قلوبنا، وتقوى شوكتنا، ويحب بعضنا بعضا، إنه الأخوة في الله، وهذا الموضوع يشمل ستة عناصر: الأول: حقيقتها، الثاني: ثمراتها، الثالث: حقوقها، الرابع: كيف نعمق أواصر الأخوة بيننا، الخامس: نواقضها، السادس: أمثلة ونماذج، فالله أسأل أن يجعلنا جميعا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولائك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
أيها الإخوة المؤمنون، إذا تأملتم واقعنا وأمعنتم فيه النظر قلتم: إن هذا الزمان زمن غربة المسلم الحق والمسلمة الحقة، إذ في زمن الغربة يمضي المسلم يبحث عن حبيب، يبحث عن نصير، يبحث عن معين، يبحث عن صديق صادق، وهو في الأصل يكتفي بالله عز وجل أنيسا ومعينا ونصيرا، ولكن مع كثرة الأعداء وكثرة الشبهات والشهوات وقلة الأتباع والأنصار، يجد المرء نفسه يناجي ربه يشكو إليه ما صار إليه الحال الآن، ونتمثل قول رسول الله وهو في الطائف: اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربنا، إلى من تكلنا، إلى قريب يتجهمنا، أو إلى عدو ملكته أمرنا، إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك، من أن ينزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك.
قلَّالصديقُوإِنْأصبحتَتعرفُلي * مكانهُ، فأَبِنْليأينَأقصدهُ
عباد الله، نريد أن تصفو قلوبنا بعد هذا الكدر الذي أفرزه واقعنا المرير، فإنَّ أساس قضية الأخوة هو صفاء القلب لله، هذا الصفاء الذي يثمر طمأنينة الفؤاد وراحة البال، وهدوءَ الضمير، فلا نرتقب خوف الغدر وحسدَ الأعين وأذى الأيدي وكيدَ القلوب وحقدَ النفوس، إنها ظلال الحب في الله، لا أخوة المصالح وصداقة المنافع التي شاعت في هذا العصر، نحتاج إلى أخٍ كالمرآة الصافية، المؤمن مرآة أخيه، يقيل كل منا عثرات الآخر، يدافع عني وأدافع عنه من ورائه، يقيمني وأقيمه، يعينني وأعينه، فأين هذه الأخوة ؟!! تعالوا بنا – أيها المؤمنون – نعيد بناء صرح الأخوة الشامخ، تعالوا نداوي تلك الآفات؛ فإن نسيجنا الأخوي يحتاج إلى إصلاح وتجديد وصيانة، فتلك الروابط التي كانت تجمع قلوب الأخوة قد بَليت، والحاجة ملحة إلى إعادة إقامتها من جديد.
عباد الله، قد يسأل البعض ويقول: لماذا الأخوة؟ والجواب هو أن نقول: ندعو إلى الأخوة لإقامة كيان الأمة الإسلامية من جديد، لأننا في عصر استُذل فيه المسلمون، وبلغوا من العجز والوهن إلى حد لا يحسدون عليه، عَصرٌ سقطت فيه أراضي المسلمين تباعا ومازال المسجد الأقصى أسيرا، عَصرُ الفوضى والغُثائية، عصرُ الغزو الفكري والثقافي ومحو الهوية الإسلامية، عَصْرُ الشتات والفُرقة والعداوات، كل هذا ونحن في سبات عميق، لقد تمزق شمل الأمة المسلمة اليوم كما تعلمون، وتشتتَ صفها، وطمِع فيها الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني، وأصبحت الآن قصعة مستباحة كما ترون، والسبب الرئيسي هو أن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء، ولا يقدر إلا أرباب الأموال، وأصبحت الأمة الإسلامية ضعيفة، لأن الفرقة قرينة للضعف والخذلان والضياع، والقوة ثمرة طيبة من ثمار الألفة والوحدة والمحبة، فما ضعفت الأمة بهذه الصورة المَهينة المخزية إلا يوم أن غاب عنها أصل وحدتها وقوتِها، ألا وهو: الأخوة في الله بالمعنى الذي جاء به الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمحال أن تتحقق الأخوة بمعناها الحقيقي إلا على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها، وكما حولت هذه الاخوةُ الجماعة المسلمة الأولى من رعاة غنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم، يوم أن تحولت هذه الاخوة التي بنيت على العقيدة بشمولها وكمالها إلى واقع عملي ومنهج حياة، تجلى هذا الواقع المشرق المضيء المنير يوم أن آخى النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء بين الموحدين في مكة، على الرغم من اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم وأوطانهم، فآخى بين حمزة عمِّهِ القرشي، وسلمانَ الفارسي، وبلالٍ الحبشي، وصهيبٍ الرومي، وأبي ذر الغِفاري، وكأني بهؤلاء القوم يهتفون بهذه الأنشودة العذبة الحلوة:
أبِي الإسلامُ لا أبَ لِي سواهُ * إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
راحوا يرددون جميعا على لسان رجل واحد قول الله عز وجل: إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون، هذه المرحلة الأولى من مراحل الإخاء، ثم آخى النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا بين أهل المدينة، بين الأوْس والخزرج، بعد حرب دامية طويلة وصراع مرير دمر فيها الأخضرَ واليابس، ثم آخَى النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل مكة من المهاجرين، وبين أهل المدينة من الأنصار، في مهرجانِ حُبٍ لم تعرف البشرية له مثيلا، تصافحت فيه القلوب قبل الأيدي، وامتزجت فيه الأرواح، حتى جَسَّدَ هذا الإخاءُ مَشاهِدَ متعددة، ومنها هذا المشهدُ الرائعُ المشرق، الذي جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم علينا عبد الرحمان بنُ عوف رضي الله عنه، وآخى النبيُ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعْد بن الربيع: قد علمتِ الأنصارُ أني من أكثرها مالا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبَهُما إليك فأطلقها حتى إذا انتهت عدتها تزوجتها، فقال عبد الرحمان بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، فدله عليه، فذهب فلم يرجع يومئذ حتى باع واشترى وأفضل شيا مِن سَمْنٍ وأقطٍ، فلم يلبث إلا أياما يسيرة حتى جاء الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه وَضَرٌ مِن صفرة، آي ثوب عليه أثرُ الطعام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْيَمْ: أيْ: ما الخبر يابن عوف؟ قال تزوجت امرأة من الأنصار، قال ما سقتَ فيها؟ قال وزنُ نواةٍ من ذهب، أو نواةٌ من ذهب، فقال: أوْلِم ولو بشاة، أي اصنع وليمة.
عمار بيت الله، قد نتحسر الآن على زمن سعد بن الربيع ونقول: أين سعدُ بنُ الربيعِ الذي شاطر أخاه ماله وزوجه؟ والجواب: ضاع وذهب يومَ أنْ ذهب عبد الرحمان بن عوف، فإذ كان السؤال: مَن الذي يُعطي عطاءَ سعد: فإن الجواب هو أن نقول: وأين الآن مَن يتعفف بعفة عبد الرحمان بن عرف؟ لقد ذهب رجل إلى أحد السلف الصالح فقال له: أين الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية، فقال له: ذهبوا مع مَن لا يسألون الناس إلحافا، هذا مشهد من مشاهد الإخاء الحقيقي، وهذا لا ينافي أن الخير باق في الأمة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه وأشهد أن لا لإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المؤمنون، تلكم هي الأخوة الصادقة، وتلكم هي حقيقتها، فإن الاخوة في الله لا تُبنى إلا على أواصر العقيدة الصحيحة، وأواصر الإيمان النقي المثمر، وأواصر الحب في الله، تلكم الأواصر التي لا تنفك عراها أبدا، تلكم الأواصر التي تثمر الحب والوئام بين أفراد الأمة الإسلامية كلها، بحيث يكون كل فرد فعالا ومعينا ومحبا لأهله وإخوانه ووطنه، ممتثلا في ذلك قولَ رسول الله: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وقول الله تعالى: إنما المومنون إخوة .
إن الأخوة في الله – يا عباد الله – نعمة من الله وفضل، وفيض من الله يُغدقها على المؤمنين الصادقين، الأخوة شراب طهور يَسقيه الله للمؤمنين الأصفياءِ والأذكياءِ والأتقياءِ، لذا فإن الأخوة في الله قرينة الإيمان، لا تنفك عنه ولا ينفك عنها، فإن وَجدتَّ الأخوة من غير الايمان فاعلم يقينا أنها التقاءُ مصالح وتبادل منافع، وإن رأيت إيمانا بدون أخوة صادقة فاعلم يقينا أنه ناقص، يحتاج صاحبه إلى دواء وعلاج لمرض فيه، لذا جمع الله بين الإيمان والأخوة في آية جامعة، فقال سبحانه: إنما المؤمنون إخوة، إن الأخوة في الله نعمة امتن الله بها على المسلمين الأوائل، فقال سبحانه وتعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تتفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وقال سبحانه وتعالى: هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله آلف بينهم، إنه عزيز حكيم، قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: لا يصلح آخرُ هذه الأمة إلا بما صلُح به أولها، والذي صلح به أولها هو: الإيمان والاتحاد والأخوة، فإلى الأخوة الإسلامية يا عباد الله من جديد حتى نتحد، حتى نتعاون، حتى ننتصر، حتى نسعد في الدارين، ويرضى عنا ربنا سبحانه وتعالى.
عباد الله، سنتابع الموضوع إن شاء الله تعالى وقدر لنا البقاء واللقاء، نسأل الله تعالى أن يربط على قلوبنا برباط وثيق، رباطِ الحب في الله، وأن يؤلف بين قلوبنا حتى نعود مرة أخرى إلى عزتنا وكرامتنا وسيادتنا.هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه.
– الأخوة في الله، رقم: 2.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَ لُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صل وسلم على معلم المربين، حبيبنا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلى كل من تمسك بسنتهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون والمؤمنات، مازلنا مع موضوع الأخوة في الله واليوم إن شاء الله تعالى مع عنصر من عناصر الأخوة، ألا هو ثمرات الأخوة، وقبل ذلك أذكر بالسؤال الذي سبق أن طرح نفسه، أو قد يطرحه البعض، ألا وهو: لماذا الحديث عن الأخوة؟ والجواب عنه من عدة وجوه، سبق أحدها، ألا وهو: لإقامة كيان الأمة من جديد، لأن الأمة في هذا العصر وصلت إلى مستوىً لا تحسد عليه، فالمسلمون مقهورون نفسيا، أريد لهم ذلك وللأسف، انصاعوا لتيار أعدائهم حتى انسحب البساط من تحت أرجلهم وهم في غفلة معرضون إلا من رحم الله وقليل ما هم، إن بناء الأمة من جديد يحتاج إلى تضافر الجهود، ولا ينتج هذا إلا عن صفاء السرائر والاجتماع على قلب رجل واحد، هذا أولا.
ثانيا: لتمحيص عيوبنا في مرآتها، الأخوة مرآة يرى فيها المؤمن عيوبه، فبكلمة طيبة واحدة من أخ ناصح لك أمين تنكسر كل العيوب على صخرة الأخوة الإيمانية، قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته ويجمع عليه معيشته ويضمها إليه، ويحوطه من ورائه، أخرجه البخاري وأبو داود.
ثالثا: لمعالجة افتقاد الحب الأخوي، إن افتقاد الحب الأخوي من أخطر الأُسباب لضعف هذه الأمة، فإن وجود الأخ المعين على الطاعة صار من الندرة بحيث عز التماسه، وما ذلك إلا لغياب الأخوة الإيمانية، التي في ظلها تتلاقى القلوب على طاعة الله، يحبه في الله، ويجعله مثل نفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يعين الأخ أخاه، يأخذ بيده إذا تعثر، إذا غاب سأل عنه وهكذا، من أجل هذا أقول: نحن في حاجة ماسة إلى الأخوة الصادقة، التي نجني من بساتينها نعيمَ القرب من الله، وذلك بلزوم الطاعة والاستقامة، وهجر المعصية، وطريق الاستقامة شاق، لكن يخففه الرفاق، فعودوا إليه ليعود، واطرقوا بابه الموصود، وتذكروا أيام طول الصيام وطول السجود، عسى أن تصفو لكم العهود، وذلك في التزام شرع الله والقيام بالحدود، ولماذا لا نبدأ من الآن من خلال رفقة الصالحين في التعاون على الطاعات والتناصح في الله.
أيها المؤمنون والمؤمنات، بعد هذه اللمحة اليسيرة عن الأسباب التي دعتنا للحديث عن هذه القضية الخطيرة في حياتنا الراهنة، تعالوا لنر ما أعده الله للمتحابين فيه، تعالوا نقطف ثمرات الأخوةِ اليانعة، هلموا نستنشق عبير الحب في الله من خلال رياضه الفواحة، لو صحت لنا – أيها الإخوة والأخوات في الإيمان – هذه الأخوة المرجوة، لو سعينا في زرع بساتينها في قلوبنا لأثمرت فينا حياة أخرى غير هذه التي نحياها، فإن القلوب تحيى وتترابطُ وتتآلف، فيورثها الله من النعم ما لا يستشعره إلا من ذاقه.
أيها المؤمنون والمؤمنات، أنتقل مع حضراتكم الموقرة، إلى حياض وبساتين الأخوة الصادقة لنقطف سويا من ثمارها اليانعة الفواحة، فالثمرة الأولى: السعادة وحلاوة الإيمان، لأن من يتذوقُ حلاوة الإيمان يحيى حياة السعداء، لقوله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الأيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار، والحديث متفق عليه، فحينئذ يستشعر لذةَ الطاعةِ وتحملَ المشقةِ في رضا الله ورسوله، وآثر ذلك على عرَض الدنيا، فالقلب السليم من أمراض الغفلة والهوى يجد طعم الإيمان كذوق الفم طعم العسل، ولا ينال المرءُ هذه الثمرة حتى تتحقق فيه ثلاث خصال، ترجع إلى واحدة، أعني إيثار الله ورسوله على كل شيء، فلا شيء أحب إليه من الله ورسوله، ولا تعلق له بأي إنسان إلا من خلال الحب في الله، ولا أكره إليه من حياة الجاهلية والكفر والعصيان، وحينها يباشر قلبَه ما يعجز اللسان عن بيانه، لأنه لا يحتمل الوصف.
الثمرة الثانية: أن يُحيطه الله برحمته ويقيه من شدائد يوم القيامة وكربه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، رواه مسلم، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، فمن أدى حق الأخوة أحاطه الله بعنايته ورعايته.
الثمرة الثالثة: نيل الأمن وتظليلُه يوم لا ظل إلا ظل عرش الرحمان، فيكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، متفق عليه.
الثمرة الرابعة: أن يُرزق العبد محبة الله، قال الله في الحديث القدسي: وجبت محبتي للمتحابين، والحديث صحيح رواه أحمد والطبراني والحاكم وهو على شرط الشيخين وابن ماجة، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن، وبحديث النبي العدنان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه الكرام، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله، الثمرة الخامسة: زيادة الدرجات في الجنة، حتى يصل العبد أو الأمة إلى منازل الأبرار، لما أخرجه أحمد والحاكم وصححه عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه قال لما قضى رسول الله صلى الله عيه وسلم صلاته، أقبل علينا بوجهه وقال: يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله، فجاء رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! انعتهم لنا؟ فسُرَّ وجه رسول الله لسؤال الأعرابي، فقال صلى الله عليه وسلم: هم أناس من أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يصنع الله لهم منابر من نور يوم القيامة، يجلسهم عليها، فيجعل وجههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فانظروا رحمكم الله إلى قوله صلى الله عليه وسلم: تحابوا في الله وتصافوا، صارت قلوبهم صافية، ليس فيها غل ولا حقد ولا ضغينة ولا بغضاءُ وشحناءُ ولا حسدٌ لأحد من الناس، فيرفع الله درجاتهم في الجنة بذلك، وهده من أعظم ثمرات الأخوة في الله.
الثمرة السادسة: اطمئنان القلب والأمنُ من أهوال يوم القيامة، واستمرارُ الأخوة إلى يوم القيامة لقوله تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، فيخبر الله تعالى أن من اتخذ مؤمنا أخاً له وصديقا في الله، لم يتخذه لغرض دنيوي ولا لمصلحة شخصية، بل من أجل الإعانة على طاعة الله وتقواه، فيطمئن قلبه ولا يحزن ولا يخاف يوم يخاف الناس، وذلك تمام الآية: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون.
الثمرة السابعة: النجاة لكل من تمسك بهذه العروة الوثقى، لقوله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله، أخرجه الطبراني وهو صحيح بمجموع طرقه، الثمرة الثامنة: صفاء السرية وكمال الإيمان، لقوله صلى الله علي وسلم: من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان، فإن الحب في الله يدل على كمال الدين، ويثمر ذلك من صفاء السريرة، وإتقان العمل والخوف من الله وتقديس كتبه، وحب سنة نبيه ما يزيد الإيمان ويبعث على نقاء القلب وسلامته.
اللهم أصلح أحوالنا، وألف بين قلوبنا واجمع شتاتنا واجعلنا إخوانا وعلى دينك أعوانا، وأصلح ذات بيننا، هذا وصلوا وسلموا على نبيكم، الرسولِ الناصح الأمين…
– الأخوة في الله، رقم: 3 – حقوق الأخوة العامة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَ لُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.
أما بعد فيا عباد الله، مازلنا مع موضوع الأخوة في الله، واليوم إن شاء الله تعالى مع عنصر آخر من عناصر الأخوة في الله، ألا هو: حقوق الأخوة العامة، إذ الحقوق على قسمين: حقوق عامة، وحقوق خاصة، فالحقوق العامة هي التي يشترك فيها كل الناس، أذكرها الآن على سبيل الإيجاز، ثم على سبيل التفصيل، وهي: إفشاء السلام، رد السلام، عيادة المريض، اتباع الجنائز، إجابة الدعوة، تشميت العاطس، إبرار المقسم، نصرة المظلوم، النصيحة، التنفيس على المكروب، التيسير على المعسر، الإغضاء عن العيوب، الابتعاد عن الأذى، كالحسد والتباغض والظلم والتحقير.
أيها الإخوة والأخوات في الله، لقد وضع ديننا الحنيف نظاما لتعامل أبناء الإسلام فيما بينهم، بحيث يثمر مزيدا من الترابط والتآلف، ويجعل أهل الإسلام نسيجا واحدا، ونحن نفتقد في هذه الأيام التطبيق العلمي لهذه الآداب، الأمر الذي أدى بدوره إلى اضطراب كثير من الأمور في أذهان بعض الناس تجاه بعض القضايا العلمية، مثل إلقاء السلام على جميع الناس، ونحن هنا نريد أن نعيد طرح هذه الواجبات والحقوق، لعلنا نداوي من خلالها ما صار بين المسلمين من شتات وفرقة، فلربما استعصت علينا الأمور، والدواء أيسر مما نتصور، وعلى كل حال يبقى السؤال موجها لكل واحد منا، ألا وهو: أين نحن من تطبيق هذه الحقوق والآداب؟ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه مسلم: خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وفي رواية: حق المسلم على المسلم ست، قيل ما هي يا رسول الله؟ قال إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه.
أيها المسلمون والمسلمات، أعود بحضراتكم إلى ذكر هذه الحقوق مفصلة فأقول وبالله التوفيق: أولا: إفشاء السلام ورده، قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى يحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم، متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم من حديث أبي هريرة: حق المسلم على أخيه المسلم ست، إلى أن قال: وإذا لقيته فسلم عليه، وقال تعالى: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها، ثانيا: عيادة المريض، قال صلى الله عليه وسلم في معرض بيان حق المسلم على أخيه: وإذا مرض فعده، وقال صلى الله عليه وسلم: من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا، رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ والمتزاورين فيَّ، رواه مالك في الموطأ، ثالثا: اتباع الجنائز، قال صلى الله عليه وسلم في حديث حقوق المسلم على أخيه: وإذا مات فاتبعه، رواه مسلم، فمن حق المسلم على أخيه: أن يشيعه إلى مثواه إذا مات، فإن أواصر الأخوة الإسلامية تبقى حتى ولو بعد موت أحدهما أو كليهما، فتبقى ملزمة للأبناء والأقرباء، فعليهم أن يكونوا أوفياء لأصدقاء مَن مات من الأقارب، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي يُكرم أصدقاء خديجة بعد وفاتها، بل هذه الأخوة تبقى حتى في يوم القيامة ويوم الحساب، قال تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، رابعا: إجابة الدعوة، والمقصود بذلك أنه إذا دعاك أخوك المسلم إلى مناسبة فرح كوليمة عرس أو نجاح أو عقيقة أو ما شابه ذلك، فيجب عليك أن تجيبه لقوله صلى الله عليه وسلم: وإذا دعاك فأجبه، رواه مسلم، لأن إجابة الدعوة تدل على احترام الأخ لأخيه ومشاركتهِ له في سرائه ومشاعره وأفراحه وأتراحه، خامسا: نصر المظلوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: تحجزه ـ أي تمنعه ـ عن ظلمه، رواه البخاري، سادسا: النصيحة، إذا رأى المسلم في أخيه عيبا أو نقصا، فلا يفضحه أمام الناس، بل ينصحه على انفراد، لأن النصيحة الخالصة والحاصلة في السر تكون الاستجابة من قِبَل المنصوح له متحققة، وفي الملإ وبين الناس تعتبر توبيخا وفضيحة، وما أجمل قول الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال:
تعمدني بنصحك في انفرادي * وجنبني النصيحة في الجماعه
فإن النصح بين الناس نــوع * من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولي * فــلا تجزع إذا لم تعط طــــاعه
وقال صلى الله عليه وسلم: وإذا استنصحك فانصح له، رواه مسلم، وبالمقابل فإن على المنصوح أن لا يضيق بالنصيحة، فقد كان الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي، سابعا: التنفيس عن الكروب، والتفريج عن المهموم، والمشاركة في محنته، لقوله صلى الله عليه وسلم: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى، رواه مسلم، وهكذا فإن الأخوة في الله تضحية وتفانٍ وتعاون ومحبة ومشاركة، في السراء والضراء، والأفراح والأتراح.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبحديث سيد المرسلين، وغفر لي ولكم ولجميع المسلمين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا ينبغي الحمد إلا له، والصلاة والسلام على صاحب النبوة والرسالة، وعلى آله وصحبه وكل من انتمى له.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون ويا أيتها الأخوات المؤمنات، الحق الثامن من حقوق المسلم على أخيه العامة: غض الطرف، والمقصود بهذا أن تغض طرفك عما تجد في أخيك من عيوب إذا كان الفضل أعظم؛ لأنَّه ما من إنسان إلا وفيه عيب، والمعصوم هو النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء، أما بقية البشر فليسوا بمعصومين، بل لا بد لهم من خطأ وزلل، قال الله تعالى: ولَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم خطاء ..، ويقول سعيد بن المسيب: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثرَ من نقصه وُهِبَ نقصه لفضله، وهذه من القواعد المهمة التي ينبغي أن نلتزمها ويتربى عليها الأجيال، فعلى المسلم أن يحفظ أخاه ويسترَه إذا وجد فيه عيبا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، وعليه أن ينصحه ويرشده إلى عيبه دون أن يفضحه بإشهاره، وإذا تأملنا هذا الكلام وقارناه بواقعنا وجدنا أن هذا الكلام في واد ونحن في واد آخر، فمن الناس من إذا وجد في أخيه عيبا نشره في كل مكان، وقد نهينا عن هذا، وإليكم قصة حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بطلها خليفة رسول الله أبو بكر رضي الله عنه فكان أبو بكر جالسا وأخذ رجل يسبه ويشتمه وهو يسمع، وما يزيده جهل هذا الرجل إلا حلماً، ورسول اللهصلى الله عليه وسلم جالس، فلما زاد الرجل في جهله أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يرد على الرجل، فقام رسول الله e ثم أخبره بعد ذلك أن الله بعث ملكاً كلما كان الرجل يسب أبا بكر رضي الله عنه كان يقول الملك: بل أنت، وكان أبو بكر كلما سبه الرجل يقول له: يغفر الله لك، فكان الملك يقول لأبى بكر بل أنت وأنت أحق به، فلما همَّ أبو بكر بالرجل انصرف الملك وحل محله الشيطان، عباد الله، غض الطرف عنه لا يعني عدمَ نصحه، لأنه لا خير في أخوة لا نصح فيها، تاسعا: تشميت العاطس لقوله صلى الله عليه وسلم: وإذا عطس فحمد الله فشمته، رواه مسلم، عاشرا: إبرار المقسم، لقول البراء بن عازب رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه مسلم بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، متفق عليه، بمعنى أن المسلم إذا حلف لك على شيء فعليك أن تصدقه، وهذا هو إبراره، وهو من حقه عليك.
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، اللهم إنا نسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، ونسألك الشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنةٍ مضلة، استجب اللهم يا رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ….
– الأخوة في الله رقم: 4 – حقوق الأخوة الخاصة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي أمرنا أن نعامل إخواننا معاملة طيبة، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أمر المؤمنين من أمته أن يكونوا كالجسد الواحد، وأن يسووا بين سائر أفراد الأمة في الحقوق والواجبات، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، اللهم صل وسلم على معلم المربين، حبيبنا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلى من تمسك بسنتهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات، مازلنا مع موضوع الأخوة في الله، واليوم بحول الله تعالى مع تتمة العنصر الثالث من عناصر الأخوة في الله، ألا وهو: حقوق الأخوة، وإن المؤمن الحق يا عباد الله يعلم أنه ليس من الإيمان في هذه الحياة أن يعيش لنفسه فقط، وليس المؤمن من يكون في الحياة بمعزل عن الناس، فلا ينفعهم ولا ينفعونه، فمن كان يعيش لنفسه فقط ويمنع خيره عن الناس فهو الأناني، فالمسلم الحق هو الذي يتفاعل مع إخوانه في هذا المجتمع، ولم يكن ما أقامه الرسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجماعة الأولى من الأخوة مجرد شعار في ألفاظ وكلمات ينطقون بها، وإنما كانت حقائق تتصل بواقع الحياة وما يتعلق بها من العلاقات بين جميع أفراد الأمة، لأن الشارع الحكيم وضع حقوقا ووجبات للمسلم تجاه أخيه المسلم، وهي على قسمين: حقوق عامة، وحقوق خاصة، فالحقوق العامة تقدمت في الخطبة الماضية، وأما الحقوق الخاصة فهي أجل وأعظم وأهم وأكبر، لأنها قائمة على استخلاص الصفوة المختارة من إخوة الإيمان وجيل الإسلام، وهي ملخصة في أربعة، أولا: المواساة بالمال، ثانيا: حق أخيك في نفسك، ثالثا: حق أخيك في لسانك، رابعا: حق أخيك في قلبك، أما الحق الأول الذي هو: المواساة بالمال، والمواساة بالمال على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى وهي أعلى المراتب: أن تؤثر أخاك على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وهى مرتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين، ولقد قال الله عز وجل في شأن هذا الصنف: ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فقد نزلت هذه الآية في حق الأنصار، حيث قدموا المهاجرين على أنفسهم وفضلوهم على أنفسهم، وذلك قوله تعالى: والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا، ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول علماء الأصول، المرتبة الثانية: هي أن تترك منزلة نفسك وترضى بمشاركة أخيك في مالك وتقاسمَه ما عندك، ولقد كان الحسن البصري رحمه الله يصف الصحابة ومدى وضوح المشاركة عندهم، قال: كان أحدهم يشق إزاره نصفين بينه وبين أخيه، وكانوا يقتسمون التمرة الواحدة بينهم، المرتبة الثالثة: ـ وهي أدنى المراتب ـ أن تنزل أخاك منزلة خادمك لتقوم بحاجته في فضل مالك، وبالمناسبة أهمس في أذن أصحاب الأيادي البيضاء، الذين من الله عليهم بالمال، لأذكرهم بأولئك الفقراء والمحتاجين والمعوزين، بمناسبة اقتراب عيد الأضحى، فهؤلاء إخوانكم يحتاجون إلى من يشاركهم فرحة العيد وبهجته، يحتاجون إلى ما يسدون به جوعتهم، من يكسوهم، من يضحي لهم، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا، ويقول تعالى: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين، ويقول تعالى: إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم والله شكور حليم.
أيها المسلمون، لنذكر بعض الأمثلة لهذا الحق، ألا وهو المواساة بالمال، أولا: جاء فتح الموصلي إلى منزل لأخ له كان غائبا، فأمر جاريته فأخرجت صندوقه ففتحته وأخذ حاجته، فأخبرت الجارية مولاها بذلك، فقال: إن صدقت فأنت حرة لوجه الله، سرورا وفرحا بما فعل، ثانيا: قد أهدى أحد الصحابة رضوان الله عليهم لأحد إخوانه رأس شاة، فبعثه الأخ إلى رجل ثان، وبعثه الثاني إلى الثالث، وهكذا حتى عاد إلى الأول، بعد أن تداوله سبعة، ثالثا: قال أبو سليمان الداراني: إني لأعطي اللقمة أخا من إخواني فأجد طعمها في حلقي، وقد ثبت هذا عن أبي بكر رضي الله عنه في حديث الهجرة، حيث طلبوا أهل غنم فأعطوهم لبنا فأخذه أبو بكر رضي الله عنه وناوله النبي صلى الله عليه وسلم ليشرب، فقال أبو بكر: فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يشرب حتى رويتُ، ارتوى أبو بكر قبل أن يشرب، رابعا: كان على مسروق دين ثقيل، وكان على أخيه خيثمة دين، فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم.
عباد الله، الحق الثاني: هو حق أخيك في نفسك، وهذا أيضا له درجات: أدناها: القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، ولكنْ مع البشاشة والاستبشار، وأعلى هذه الدرجات: أن تقدم حوائج أخيك على قضاء حوائجك، وأن تنقذه مما ينزل به من خطر ولو كان في ذلك ضرر لك، وفي هذا يقول بعض العلماء:
إن أخاك الحق من كان معك * ومن يضر نفسه لينفعك
ومَن إذا ريب الزمان صدعك * شتت فيه شمله ليجمعك
بمعنى أن أخاك الحقيقي هو الذي يكون دائما معك في جميع الأحوال، يعينك وينفعك في الرخاء والشدة، ولو أدى ذلك إلى أن يضر نفسه، قوله: ريب الزمان صدعك: أي حوادث الزمان ألمت ونزلت بك فأخوك يجمع شملك في هذه الحال، وكان الحسن رحمه الله يقول: إخواننا في الله أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكرونا بالدنيا وإخوانَنا يذكروننا بالآخرة، وروي أن خليفة أمر بضرب رقاب ثلاثة من الصالحين، فيهم أبو الحسين النوري، فتقدم أبو الحسين ليكون أول من تضرب عنقه، فعجب الخليفة لذلك وسأله عن سببه؟ فقال أبو الحسين: أحببت أن أو ثر إخواني بالحياة في هذه اللحظات، فكان ذلك سببا في نجاتهم جميعنا.
أيها المسلمون، الحق الثالث: هو حق أخيك في لسانك، وهو على ثلاثة أقسام، القسم الأول: أن تصمت عن كل ما يكره، شريطة أن تنصحه بالتي هي أحسن، فلا تسخرُ وتستهزئ منه ولا تعيبه ولا تكذب عليه، ولا تشتمه، ولا تلقبه بما يكره، ولا تبحث له عن سر، ولا تذكر أهله وأحبابه بسوء، ولا تكشف عن عيب وجدته فيه، وإنما تستر عيوبه ما وجدت إلى ذلك سبيلا، القسم الثاني: أن تتكلم بما يحب أخوك أن يسمع، شريطة ألا يجلب ذلك غرورا لنفسك أو أن ينحرف بك عن جادة الصدق إلى جادة الكذب، ومما يدخل تحت هذا الحق أيضا: ترك المراء والجدال الخبيث، قال الحسن رحمه الله: إياك ومماراةَ الرجال، فإنك لن تعدم فكر حكيم، أو مفاجأة لئيم، القسم الثالث: الدعاء لأخيك حيا أو ميتا، لأن الدعاء علامة من علامات المحبة، التي تدل على الاهتمام بالأخ والغيرة عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إذا دعا الرجلُ لأخيه بظهر الغيب قال الملك: ولك مثل ذلك، فلندَع البغضاء في دنيانا هذه، فإنْ سبق أحدنا إلى الآخرة فليدع له من تأخر ويستغفرْ له، لقوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم، أما الحق الرابع: فهو حق قلبي، فلأخيك عليك حق في قلبك، وهذا يجمعه كلمتان: العفو والوفاء، أما العفو عن أخيك، فلأنك تعلم قبل أن تتخذه أخا أنه ليس معصوما من الأخطاء، وإلا لكان نبيا من أنبياء الله، فلا بد له إذن من عثرات وزلات، ولا بد له من سقطات، وإنما انكشفت لك هذه السقطات لقربك منه وطول معاشرتك له، ولعلك لو كنت بعيدا لما رأيت ما رأيت، فلا بد لك من رؤية ما تكره في بعض الأحيان والصمتِ على ما ترى، فاعف عنه إن كنت مؤمنا، لأن الله تعالى قد أمر بالعفو عن الناس فقال تعالى: فمن عفا وأصلح فأجره على الله، واستمع إليه وهو يطالب بالعفو، حيث قال تعالى: وليعفوا وليصفحوا، وقال تعالى: الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، ووصف المؤمنين بقوله: رحماء بينهم، وأما الوفاء: فهو الثبات على الحب وإدامتُه إلى الموت، وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه، فإن الحب إنما يراد للآخرة، فإن انقطع قبل الموت حبط العمل وضاع السعي، وحادثة إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم للعجوز التي كانت تأتيهم في أيام خديجة رضي الله عنها خير دليل على ذلك، وكلما انقطع الوفاء وعدم دوام المحبة شمت الشيطان، فإنه لا يجد متعاونين على بر متواضعين متحابين في الله إلا ويجهد نفسه لإفساد ما بينهما.
معاشر المسلمين، أنتقل مع حضراتكم إلى عنصر آخر من عناصر الأخوة في الله، ألا وهو: كيف نعمق أواصر الأخوة بيننا؟ وهو يشتمل على عشرة أمور، نذكر اليوم واحدا منها فقط، ألا وهو: حسن الظن وقبول الظاهر، فكيف نعمق أواصر الأخوة بيننا أيها الإخوة؟ لا بد من نية صالحة، ننوي أن نحقق هذا المعنى العظيم، معنى الأمة في حياتنا، نريد إحياء روح الأخوة، نريد أن نكون بالفعل متحابين، حتى تقوم للإسلام أمة، وتعلوَ للدين راية، وذلك لن يتأتى لنا إلا بعد قطع خطوات هامة على الدرب، فأول ذلك حسن الظن وقبول الظاهر، فحسن الظن من أكبر العقبات التي تحول بين ترابط المسلمين فيما بينهم، يقول الله جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم، قال علماؤنا: إن الغيبة من ألكبائر، وهي من أعظم المحرمات عند الله، وغيبة المسلم تنشأ عن التجسس عادة، وسبب التجسس الظن، فهي مراتب بعضها فوق بعض، فمثلا: بعض الناس يمضي في طريقه فإذا به يرى من يختبئ وراء جدار، فتستشرف نفسه الدخول فيما لا يعنيه، فيعود ويتلصص لينظر ماذا يصنع هذا الرجل، فربما يرى ما يسوء، أو ما قد يعجز عن تفسيره فيقع في الغيبة أو غيرها من المنكرات، فالأولى بنا سد الباب من البداية، فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، لذلك كان الأصل في الإسلام أن تحسن الظن بأخيك، وتسيء الظن بنفسك، وهذا عكس ما هو حاصل في الواقع، فتجد من يحسن الظن بنفسه إلى أقصى درجة وكأنه المعصوم، ويسيء الظن بإخوانه لأقل شاردة أو واردة، لأجل هذا دبت الفرقة، وعمت البغضاء والشحناء بين إخوة الإسلام، فأحسنوا الظن بإخوانكم يا مسلمون.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وآله وأزواجه الشرفاء، وصحبه مبتدئا بالخلفاء، وكل من سلك نهجهم ولآثارهم اقتفى.
أما بعد فيا عباد الله، سوء الظن لا يحل استعماله في الدين، فلا تترك يا أخي المحكم من المنقول والصريح لما تشابه عندك، وهذا والله شأن كل مبطل، فالأحرى بك أن تكون وقافا عند الشبهات، تتقي الوقوع فيها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، فعليك أن تؤول كلام أخيك على مدلوله الخير إذا كان اللفظ يحتمله، فإن النفس الطيبة لا تبصر إلا ما كان طيبا، والنفس الخبيثة هي التي تقف عند كل خبيث لا تكاد تبصر غيره، والإسلام دين الجمال والكمال، وقد حرص على صيانة عرض المسلم غاية الصيانة من الظن المجرد عن الدليل، وعن الظن الذي لم يبن على أصل وتحقيق نظر، ولذلك أمرنا الله بالتثبت في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، وفي القراءة الأخرى: فتثبتوا، قال بعض العلماء: إن الله سمى النمام فاسقا، فكل من جاءك بنبأ يترتب عليه إفساد ذات البين فهو فاسق، سماه الله فاسقا ابتداء فوجب التثبت في كل ما حمله من أخبار، لما سوف ينتج عن هذا من إفساد ذات البين، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
عباد الله، هذه معالمُ عظيمة جدا، يضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام المسلم لكي تنضبط العلاقات الأخوية بين المسلمين، يقول: لا تجسسوا، فينبغي أن تكون سليم الصدر، لماذا تبحث عن عورات المسلمين؟ وأخرج أبو داود وأحمد وهو في صحيح الجامع، يقول صلى الله عليه وسلم: يا معشر من آمن بلسانه ولم تؤمن قلوبهم، لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عروة المسلم تتبع الله عورته، فاستر أخاك يا عبد الله، لأن الله حيي سِتير يحب الستر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه مسلم: ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، أليست هذه المعاني مطلوبة في حياتنا الآن؟ لماذا تترك الجوانب الجميلة الطيبة وتبحث وتفتش وتلتقط أشياء لا تدرك إلا بالمناقيش؟ كل هذا لتقع على الذنوب والعيوب، ما الذي يحملك على هذا؟ لا شك أنه سوء الظن، فلو تخلصت من هذا في البداية ما وقعت في هذا البلاء، وما ارتكبت كل هذه الآثام، ولأجل هذا أحسن الظن بأخيك، فلعله أساء التعبير أو أساء التصرف لقلة خبرته فظننت أنه تعمد هذا الصنيع الذي تراه سيئا، فما زلت تعذر أخاك تقول لعله كذا لعله كذا، حتى يفضي بك ذلك إلى حسن الظن وسلامةِ الصدر، وانظر إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وقد دخل عليه تلميذه الربيع بن سليمان في مرض موته فقال: قوى الله ضعفك يا إمام! فقال الشافعي: انظر ماذا تقول! لو قوى الله ضعفي لقتلني، يعني لو زاد ضعفي أموت، قال الربيع: والله ما قصدت يا إمام، قال الشافعي: والله لو شتمتني لعلمت أنك لم تقصد، وقال الشافعي رحمه الله أيضا: من صدق في أخوة أخيه قبلَ عِلله، وسدَّ خلله، وعفا عن زلَلِه، إنه حسن الظن بالمسلم، أراد الشافعي أن يلقننا هذا الدرس، وهو على فراش الموت، والشاهد أنه ينبغي إحسان الظن بالمسلمين، فتقول مثلا: سبحان الله لعله مشغول، لعله ألم به شيء، هذه هي الروح المطلوبة، فإذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له عذرا من سبعين عذرا، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرا لا أعرفه، فربما يكون هناك من الأشياء ما خفي عنك، وللناس أسرار لا يعلمها إلا من يعلم السر وأخفى، وسوء الظن في علم التربية مثل الحامض الذي يذيب ما يوضع عليه، فسوء الظن كذالك يذيب الحب من القلوب.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خير الزاد التقوى….
– سلسلة المنح القدسية في الخطب المنبرية – للشيخ فريد الأنصاري رحمه الله-2011