السعادة – الشيخ محمد مختار الشنقيطي
السعادة – الشيخ محمد مختار الشنقيطي
إن السعادة أمر يبحث عنه وينشده كل إنسان، ولكن من الناس من بحث عن السعادة في المال، والبعض بحث عنها في اتباع الشهوات وفعل المحرمات، ولكن هؤلاء كلهم -في الحقيقة- لم يجدوا السعادة؛ لأن السعادة قد جعلها ربنا جل وعلا في طاعته وذكره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فليسع الإنسان إلى طاعة الله، لكي يتذوق السعادة في حياته الدنيا وفي الآخرة.
من هو السعيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة في الله! من هو السعيد الذي امتلأ قلبه بذكر الله؟
من هو السعيد الذي إذا أمسى وأصبح ليس في قلبه غير الله جل جلاله؟
من هو السعيد الذي أسعده الله في نفسه فاطمأن قلبه بذكره ولهج لسانه بالثناء عليه؟
من هو السعيد الذي أقر الله عينه بالطاعات، وأسرَّه بالباقيات الصالحات؟
من هو السعيد الذي أسعده الله في أهله وماله وولده فرأى قرة العين وحمد الله سبحانه وتعالى على القليل والكثير؟
من هو السعيد الذي أسعده الله بين الناس، فعاش طيب الذكر، حسن السمعة، لا يذكر إلا بخير، ولا يعرف عنه إلا الخير؟
من هو السعيد الذي إذا وقف على آخر أعتاب هذه الدنيا وقف بقلبٍ ثابت ولسانٍ ذاكر، وقد رضي عن الله وأرضاه الله؟
من هو السعيد الذي إذا ذهبت ساعته وحانت قيامته تنزلت عليه ملائكة ربه تبشره بالروح والريحان والرحمة والغفران وأن الله راضٍ عنه غير غضبان؟
من هو السعيد الذي ختم له بخاتمة السعداء فكان آخر ما نطق به من الدنيا: لا إله إلا الله؟
من هو السعيد الذي أسعده الله في قبره، وأقر عينه في لحده، حتى إذا أدخل في ذلك القبر وعوتب في ذلك اللحد وسئل -إن ثبت الله له الجنان واللسان- فقال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فنادى منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، ففرش له من الجنان، وفتح له منها يأتيه من الروح والريحان، فقال السعيد: يا رب! أقم الساعة، يا رب! أقم الساعة، شوقاً إلى رحمة الله وحنيناً إلى عظيم ما ينتظره من فضل الله؟
من هو السعيد الذي إذا بعث من قبره وخرج إلى حشره ونشره خرج مع السعداء، فتتلقاهم الملائكة لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103]؟
من هو السعيد الذي إذا دنت الشمس من الخلائق، وأذل الله فيه كل عزيز، وأخرس ناطق، واشتد لهيبها وعظم حرها وذهب العرق في الأرض سبعين ذراعاً فاشتد الخطب، فإذا به في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله؟
من هو السعيد الذي إذا وقف بين يدي ربه وقف موقف الكريم، فأعلى الله شأنه وأنطق بالخير لسانه، ونادى الله عليه بالبشرى بالجنة؟
من هو السعيد -أيها الأحبة في الله- الذي ينتهي مآله ويكون قراره إلى الجنة دار السعداء ومنزل الأتقياء؟
أسباب السعادة
أيها الأحبة في الله! إنها السعادة الحقيقية التي يتمناها كل عبدٍ صالح.. إنها السعادة الحقيقية التي إذا فتح الله لك أبوابها لم يستطع أحدٌ أن يغلقها عليك.
أثر الإيمان في سعادة العبد
إذا أراد الله أن يسعد العبد كان أول ما يوفقه إليه هو الإيمان بالله جل جلاله، فمن عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ورزقه الله سلامة الإيمان واستقامة الجنان وصوَّب الأمور كلها للواحد الرحمن، واعتقد من قرارة قلبه ألا ملجأ ولا منجى ولا مفر من الله إلا إليه.
السعيد الذي ملأ الله قلبه بالإيمان فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، لا تتبدل أحواله ولا تتغير هدايته، قد جعل الجنة والنار نصب عينيه، فهو يعمل للجنة ويفر من النار.
إذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه انشراح الصدر بذكره وطمأنينة القلب بالإنابة إليه وشكره، فالذاكرون الله كثيراً والذاكرات هم السعداء، وإذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، فأصبح لسانه لا يفتر عن ذكر الله جل جلاله، وأصبحت ساعاته وحركاته وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، ينتقل من طاعةٍ إلى طاعة، ومن برٍ إلى بر، ومن خيرٍ إلى خير، لا يسأم ولا يمل، وقلبه متعلق بالله سبحانه وتعالى.
سعادة المؤمن في ذكر الله، ولقد سبق المفردون (قالوا: يا رسول الله! من هم المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) فإن كلمة واحدة من ذكر الله قد تسعدك إلى لقاء الله، وذكر الله سبحانه وتعالى عظيمٌ عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فمن أكثر من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وصوَّب الأمور كلها لله فقد كملت سعادته وعظمت هدايته.
الرضاء بقضاء الله
إذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه الرضا بقضائه، فوالله لو لبس مرقع الثياب وعاش فقيراً مدقعاً فإن الله يملأ قلبه بالغنى، فإن ابتلي وهو يشكر ربه ويحمده يحس أنه لا أسعد منه حينما رضي عن الله، ولو رأى مصائب الدنيا وأهوالها ونكباتها فإنه سيعلم أن الأمور كلها لله سبحانه وتعالى، فلا يضيق عليه قلب، ولا يسأم ولا يمل، ولا يشتكي الرب إلى الخلق، ولا يشتكي من سقمه ولا من مرضه لعلمه أن الله ابتلاه، فيحب أن يري الله من نفسه ما يحب ويرضى، ويحب أن يسمع الله من لسانه ذكره وشكره والإنابة إليه سبحانه، فمن أمسى وأصبح راضياً عن الله أرضاه الله، وكم من غني ألبسه الله ثوب الغنى والعافية، ومع ذلك تنصب عليه الأموال صباح مساء، ولو سألته عن حاله لقال: إني في همٍ وكربٍ وغم!
المال لا يأتي بالسعادة، ولو كان المال يأتي بالسعادة لكان أسعد الناس قارون، كانت مفاتيح خزائنه تنوء بالعصبة القوية عند حملها، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
المال لا يأتي بالسعادة، وكم من غنيٍ كريم أبكاه ماله فطال بكاؤه! وكم من غنيٍ أشقاه ماله فما نال السعادة بعد شقائه!
السعادة لا تكون إلا بالرضا عن الله، والعلم اليقيني أننا ملكٌ لله، فإذا علم العبد أنه لله توسع عليه ضيق الدنيا، وزال همها وغمها، فأبدله الله الفرح والسرور والكرامة، ومن ظن أن السعادة في الأموال فإنه قد أخطأ.
حدثني الوالد رحمه الله: أن رجلاً كان غنياً ثرياً، أنعم الله عليه بالنعمة، ووسع عليه بالرزق، قال رحمه الله: لما اشتد الحال بالناس اشترى صفقةً من الطعام، وكانت صفقةً كبيرة، قال رحمه الله: فدخلت عليه وقد أخبره رجل أن سعر الطعام الذي اشتراه قد ارتفع إلى أضعافٍ كثيرة، فلم يتحمل الفرحة فسقط ميتاً على دفتره، قال: ومضت الأيام، وتبدلت الأحوال، فدخلت على رجلٍ من أهل المدينة في كرائم نعمه وقد اشترى صفقةً من نفس الطعام، قال: والله فأتاه الخبر بأن سعر الطعام قد انخفض، فلم يتحمل الصدمة فسقط ميتاً. فقال: سبحان الله! عجبت لرجلٍ يموت عند الغلاء فرحاً، ورجلٌ يموت عند الرخص حزناً!!
فالسعادة ليست في المال، فوالله كم من غنيٍ ثري يتمنى أنه كالفقير! وكم من غنيٍ ثري أبكته زوجته بسبب المال وأبكاه أولاده وأقاربه بسبب المال!
فلم أر السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
ولربما رأيت الرجل فقيراً مدقعاً قليل المال ولكن الله أغناه بالإيمان والرضا، فإذا دخلت عليه قلت له: كيف حالك؟ قال: الحمد لله، في نعمةٍ من الله وفضل.
وكم من قويٍ في البدن قد أنعم الله عليه بالعافية، ومع ذلك سلبه الرضا في قلبه، فإذا سئل عن حاله اشتكى وبكى!
وكم من مريضٍ فقيرٍ طريح الفراش قد يكون مشغولاً في مقعده، تسأله: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله، لأن الله ملأ قلبه بالرضا!
إذا أراد الله أن يسعد العبد أسعده أولاً في نفسه، وظهرت دلائل السعادة بالتوبة والإنابة إلى الله، والبكاء على ما سلف وكان من الذنوب والعصيان، فيسأل الله -دائماً- العفو والغفران، وسيصلح الله من حاله ويبدل من أفعاله ومقاله إلى خيرٍ وبر.
ثم تأتيك السعادة في الهداية والإنابة إلى الله والرجوع إليه سبحانه وتعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلام [الأنعام:125].
بر الوالدين والإحسان إليهما
وكما أن السعادة تكون في النفس بالاستقامة تكون في الأهل والمال والولد، فإذا أراد الله أن يسعدك في قرابتك رزقك رضا أقرب الناس إليك ورزقك الرضا من أقرب الناس إليك وأعظمهم حقاً عليك، فإذا أراد أن يسعدك رزقك رضا الوالدين، فمن أعظم أسباب السعادة: رضا الوالدين، ومن أرضى والديه رضي الله عنه، وكم من ابنٍ بار فتحت أبواب السماء لدعواتٍ مستجابةٍ من والديه، وكم من ابنٍ بار فتح الله أبواب الخير في وجهه عندما أرضى الله في والديه، قال صلى الله عليه وسلم: (رضي الله على من أرضى والديه، وسخط الله على من أسخط والديه) وفي الحديث: (يا رسول الله! أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) .
فمن أعظم أسباب السعادة بر الوالدين، والله تعالى إذا أراد أن يسعد الإنسان جعل قلبه معلقاً برضا والديه، فإذا كانا حبيبين نظر إليهما نظر الرحمة فيرحمهما عند المشيب والكبر، ورزقه الله انكسار القلب وهو يرى والده في آخر هذه الدنيا ضعيفاً سقيماً كبيراً، فألهمه بره والإحسان إليه، ونظر إلى أمه وهي ضعيفةٌ سقيمة في آخر أعتاب هذه الدنيا، فأحبها من كل قلبه، واشتغل ببرها بسائر جوارحه، ينتظر رضاها الصباح والمساء والعشي والإبكار، حتى يتأذن الله له بتمام الرضا، فكم من حوادث ووقائع رأى أهلها السعادة بفضل الله وحده ثم ببر الوالدين.
إذاً: بر الوالدين من أعظم أسباب السعادة، حتى ولو كانا ميتين، فإن كثرة الترحم عليهما والاستغفار لهما والصدقة عنهما من أسباب السعادة، ولذلك قال الرجل: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ -من رحمة الله أنه لم يقفل عليك هذا الباب الكريم وهو رضا الوالدين، حتى بعد موتهما- قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) والله لن ترى عبداً يبرُ والديه من أهل الإيمان إلا وجدته سعيداً قرير العين عن الله جل جلاله.
صلاح الأبناء واستقامتهم على الخير
وإذا أراد الله أن يسعد العبد أسعده في أولاده، فرأى قرة العين في الولد عند صلاحه، وهذا إنما يكون بكثرة الدعاء للأولاد في أوقات الإجابة أن يرزقهم الصلاح والاستقامة على الخير والفلاح، قال الله عن عباده الصالحين: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74] .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قرة العين، وأن يجعل أبناءنا وبناتنا سبب سعادة لنا في الدنيا والآخرة، فإن الولد من أعظم أسباب السعادة، فإذا أردت أن ترى السعادة في الولد فانظر إلى الولد الصالح، فإنك إن نسيت الله ذكرك! وإن ذكرت الله أعانك! وإذا كنت على طاعةٍ ثبتك.
والولد الصالح أمنية الأخيار والصالحين، لذلك قال الله عن نبيه لما سأله: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] ولا تطيب الذرية إلا بالصلاح والاستقامة على الخير والفلاح، ولكن من الآن ابدأ في تربيته بدعوته للخير؛ لأنك إن أقمته على طاعة الله من صغره أقر الله عينك في كبره، من تعب الآن بأمر أولاده بالصلاة وتحبيبهم إلى طاعة الله والتقوى والزكاة أقر الله عينه في الكبر، فمن أخلص لله في الصغر مع أبنائه أقر الله عينه عنه في كبره، ومن تساهل معهم وفرقهم فإنه قد ضيع حق الله فيضيعه في ولده، ووالله لن ترى والداً ووالدةً أهملا أولادهما بعد أمرهم بطاعة الله وحثهم على مرضاته سبحانه وتعالى إلا جاء اليوم الذي يبكي فيه كل واحدٍ منهما بكاءً شديداً، ولذلك قلّ أن تجد والدين فرطا أو ضيعا إلا وجدت الأولاد يعقون عند الكبر، نسأل الله السلامة والعافية.
فمن أسباب السعادة في الأولاد تربيتهم على الصلاة والطاعة والخير والبر، يقول بعض العلماء: إن الولد إذا تعوّد من الصغر على الأمر والحث على الصلاة، وفي كل يوم خمس مرات وأنت تقف على رأسه وتتابعه في صلاته وعبادته، أصبح عنده شعور لا يزول إلى الأبد بالذل لك، والسمع والطاعة، والامتثال بأمرك، ولذلك قلّ أن تجد ذريةً يحاسب والداها على الأمر بالخير إلا وجدتهم عند الكبر مطيعين محبين ممتثلين يهابون الوالدين؛ لأن الله لا يجزي بالإحسان إلا الإحسان، ومن وفّى لله في نعمة الولد وفّى الله له، وأقر عينه عاجلاً وآجلاً.
بذل المال وإنفاقه في وجوه الخير
من أسباب السعادة: أن يسعدك الله في مالك، ومن أسباب السعادة في المال بذله في طاعة الله سبحانه وتعالى، فمن أنفق لله أنفق الله عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (يا أسماء ! أنفقي ينفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك) من رزقه الله المال الصالح الذي أخذه من حله وكسبه كسباً طيباً حلالاً، ووفقه لتفريج الكربات، وتكفيف دموع الأرامل واليتامى والثكالى؛ فإن الله يسعده في ذلك المال، فإن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع عن العبد البلايا والرزايا، وقلّ أن تجد عبداً كثير الصدقات إلا وجدت الله سبحانه وتعالى يلطف به من حيث لا يحتسب.
فيا إخواني! الحرص ثم الحرص على الإنفاق! وعلى إدخال السرور على الضعفاء والفقراء والمحتاجين، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ومن أنفق لله بارك الله له في ماله، وجعل هذا المال قرة عينٍ له في الدنيا والآخرة، فعليكم بالحرص على الصدقات؛ لأن الحرص على الإحسان إلى الضعفة والبائسين والمحتاجين من أجلّ نعم الله عز وجل على العبد، ولذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب) قال بعض العلماء: إنها تحجبُ البلاء؛ لأنه إذا كانت تطفئ غضب الرب فمعنى ذلك: أن العبد يحفظ من البلاء.
ثم إن الإحسان إلى الناس سببٌ في الدعوات الصالحة، فقد تأتي إلى أرملةٍ ضعيفة أو مسكينٍ أو يتيمٍ أو بائس فتحسن إليه، وتتفقد حاله فتقضي حاجته، فينظر وإذا به عاجزٌ عن شكرك ورد جميلك فلا يملك إلا أن يرفع كفه إلى الله سائلاً أن يشكرك، فلربما غفرت ذنوبك وسترت عيوبك وفرجت كروبك، قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يّسر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) .
فمن أعظم أسباب السعادة في المال: كثرة إنفاقه، ولذلك قال بعض العلماء: إن المال الصالح عند العبد الصالح طريق إلى الجنة.
في الحديث الصحيح: (أن امرأة جاءت إلى عائشة وكان معها ابنتان، فاستطعمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها فأطعمتها ثلاث تمرات -ولربما كانت التمرة الواحدة قوتاً للإنسان يومه كله- فأخذت هذه الأم تمرتين فأعطت كل بنت تمرة، ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أن تأكلها، فاستطعمتها إحدى بناتها، فأطعمتها تلك التمرة ولم تأكلها، فعجبت عائشة رضي الله عنها وأرضاها! فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبر المرأة، فنزل الوحي من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها: أتعجبين مما صنعت؟! إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك) هذه -والله- هي السعادة حينما تنفق لله، وأي مالٍ أخرجته مخلصاً لوجه الله عز وجل تحتسب به ما عند الله، فإن الله يخلفه عليك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله يخلف عليك بالبركة في مالك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) .
حسن الخلق ونقاء القلب والسريرة
أيها الأحبة في الله! إذا أراد الله أن يسعد العبد بين الناس أسعده بحسن الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم)، وأخبر صلى الله عليه وسلم (خير المؤمنين وأكملهم إيماناً أحسنهم أخلاقاً)، فإذا أراد الله أن يسعدك طيَّب شمائلك وأخلاقك، فأحبك الناس من قربك وفعلك، من رزقه الله حسن الخلق عاش سعيداً، ومات حميداً، ورضي الناس عنه وشهدوا له بكل خير، ولربما بقي حياً بعد موته في الذكر الجميل، فالأخلاق والآداب الطيبة ومعاشرة الناس وتوطئة الكنف من أعظم أسباب السعادة.
إذاً: مما ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يكون سعيداً مع المسلمين أن يكون نقي القلب والسريرة، فلا سعادة إلا إذا أخرج العبد من قلبه الشحناء والبغضاء، والحسد واحتقار الناس، وآفات القلوب جميعها، وأسلم لله قلبه، واستحيا من الله أن ينظر إلى قلبه وفيه غلاً على مسلم، واستحيا من الله أن ينظر إلى قلبه وفيه الحسد أو البغضاء أو الشحناء، لقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً بالجنة فانطلق مع هذا الرجل عبد الله بن عمرو بن العاص ، وبات معه ثلاث ليالٍ ليرمق عبادته، وينظر أقواله وأفعاله، فلم يجد كثير صيام ولا قيام! ثم قال له في اليوم الثالث: (إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة فكنت هو، فأخبرني عن أرجى عملٍ تعمله، فقال ذلك الصحابي المبشر بالجنة وهو يمشي على وجه الأرض قال: أما إنه ليس عندي كثير صيامٍ ولا قيام، ولكني لا أمسي وأصبح وفي قلبي غلٌ على مسلم) .
إن القلوب إذا تغيرت، والنفوس إذا تبدلت، أظهر الله ما في السرائر على الظواهر.
ومن أسر سريرة الخير أظهر الله للناس خيره، ومن أسر سريرة السوء والشر أظهر الله للناس عورته.
فأول ما ينبغي على الإنسان لكي يكون سعيداً مع الناس: أن ينزع من قلبه الحسد والبغضاء، وإياك أن تحتقر مسلماً لقلة ماله أو مركزه أو وظيفته، فالمسلمون جميعاً يجب أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وترضى لهم ما ترضى لنفسك، وينبغي أن تحسن بهم الظن كما ينبغي عليهم أن يحسنوا بك الظن أيضاً، فإذا سلم صدرك سلمت جوارحك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ووالله لن يصلح القلب إلا بالسلامة لله عز وجل من أذية المؤمنين.
وإذا أردت سعادة مع الناس: فعليك أن تسلم الناس من لسانك، فلا يسمعون منك إلا الطيب؛ لأن المسلم طيب سلم لله لسانه وجنانه وجوارحه وأركانه.
ولقد وصف الله أهل الجنة بأنهم طابوا، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويسلمون عليهم، ويقول الله عز وجل:سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73] فلما طابت أقوالهم وأفعالهم كانوا من أهل الجنة، فمن أراد أن يكون من السعداء فليحفظ لسانه عن الناس، وإذا أراد أن يعيش بين الناس عيشةً هنية رضية فليحفظ لسانه عن عورات المسلمين وأذية إخوانه المؤمنين، وأن يعطي إخوانه المسلمين من الكلام ما يحب أن يأخذه منهم.
كذلك من أسباب السعادة مع الناس: الحرص على مجالستهم ومباسطتهم ومؤانستهم، فإن ذلك من أسباب السعادة، فإن من نعم هذه الدنيا التي ينعم الله بها على عباده الصالحين مجالس الذكر والخير، فإذا جلست مع الناس فتفقد أحوالهم، فإذا رأيت المهموم بدلت همومه بكلمةٍ طيبة، وإذا رأيت القلق الحيران أرشدته في حيرته ووجهته من غفلته وذكرته بالله، فإنها كلماتٌ طيبات يعظم أجرها في الدنيا وفي الآخرة بعد الممات.
من أراد أن يعيش سعيداً مع الناس حرص على أمرهم بالخير ودلالتهم عليه، فإذا فعل ذلك طيب الله ذكره ومجالسه، وقذف في قلوب الناس حبه وحب الجلوس معه، حتى ولو كانوا من جيرانك الأقربين إذا زرتهم وتفقدت أحوالهم، فإن رأيت تقصيراً كملته، وإن رأيت عيباً دللتهم ونبهتهم عليه، وأرشدتهم إليه، وأخذت بمجامع قلوبهم إلى الله، واحتسبت الأجر عند الله.
الدعاء
أيها الأحبة في الله! لا تنال السعادة إلا بتوفيق الله جل جلاله، فأول ما ينبغي على من أراد أن يسعده الله في الدنيا والآخرة فعليه أن يكثر من الدعاء بأن يسأل الله عز وجل أن يحييه حياة السعداء، وأن يميته موتة الشهداء، وأن يرزقه مرافقة الأنبياء، فإن الله كريم، فلا تستكثر على الله أن يسعدك في أهلك ومالك وولدك، فإن الله مقلب القلوب والأحوال، وكم من شقي قلبه الله سعيداً في طرفة عين! فالله على كل شيءٍ قدير.
ولذلك جاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الكفر فأسلم في آخر لحظة، ثم حمل سيفه فقاتل وجاهد في سبيل الله فاستشهد، فقال صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً) .
فالسعادة من الله، وإن فتح لك الله بابها فلا يستطيع أحد أن يغلقه عليك مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2] فأكثر من الدعاء، وإذا نظر الله إليك وأنت تفتقر إليه بأن يرحمك فإن الله سيجزيك ويجيب دعوتك، قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] .
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا السعادة، وأن يتأذن لنا ولكم بالخير والزيادة.
قراءة القرآن وسير الأنبياء والسلف الصالح
كذلك من أسباب السعادة: أن يكثر الإنسان من تلاوة القرآن، فإن الله جل وعلا أسعد أهل القرآن، فطوبى ثم طوبى لمن جعل الله القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه، وسائقه وقائده إلى رحمته ورضوانه.
من أسباب السعادة: قراءة سير الأنبياء، والتدبر والتأمل فيها ، وكثرة النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كان مفوضاً الأمور كلها إلى الله، يحتسب الأجر من الله سبحانه وتعالى.
من أسباب السعادة: قراءة سير السلف الصالح من العلماء العاملين والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم من الأخيار والصالحين، فإن ذكر الصالحين والنظر إلى أحوالهم وما كانوا عليه من الاستقامة والثبات على الحق والخير وحبه مما يقوي القلوب على طاعة الله وعلى مرضاته.
حضور حلق الذكر
فمن أسباب السعادة التي ييسر الله عز وجل بها للعبد سبيلها: طلب العلم وغشيان حلق الذكر، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن مجالس الذكر: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) .
فمن أمارات السعادة وأسبابها ودلائلها: أن يوفق الله العبد لحب مجالس العلماء وغشيان حلق الذكر.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم سعادة الدين والدنيا والآخرة.
اللهم إن نسألك سعادةً لا نشقى بعدها أبداً، اللهم إن نسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلوبنا، وتصلح بها أحوالنا، اللهم إنا نسألك رحمة تتأذن لنا بها منك بالمزيد، وتؤمننا بها يوم السطوة والوعيد يا ذا الأمر الشديد!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
أسباب تعين على قيام الليل
السؤال: إن من أسباب السعادة أن يوفق العبد لقيام الليل، وإني كلما حاولت القيام لا أستطيع رغم بذل الأسباب، فهل من كلمة توجهها إليَّ؟
الجواب: قيام الليل من أجلّ الطاعات وأشرف القربات التي يرحم الله بها المؤمنين والمؤمنات، وانظر إلى نصوص الكتاب والسنة وما فيها من الدلائل العجيبة التي تدل على فضل هذه العبادة؛ لأن الله أوحى لنبيه وأمره بقوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]، فكان أول ما أمره أن تنتصب قدمه بين يدي الله في جوف الليل، وقد نامت العيون وهدأت الجفون، وقام العبد بين يدي الله يتلو كتاب الله ويرجو رحمته، فهي ساعات الصالحين، وأمنية المتقين، وشعار عباد الله المفلحين.
ما رزق أحد قيام الليل إلا أفلح ونجح وربحت تجارته في الدنيا والآخرة: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] ، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] .
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما العبد إذا كان في جوف الليل وقام ليتهجد وترك زوجته وحبه، فقال الله: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟ فيقولون -والله أعلم- يرجو رحمتك ويخشى عذابك، فيقول الله: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي) .
قيام الليل خيرٌ كثير، فهو شأن الصالحين وعباد الله المفلحين، ما حبب قيام الليل إلى عبد إلا رزقه الله عز وجل الصلاح والفلاح، وكم من دعوةٍ استجيبت في ظلمات الليل! قال: (يا رسول الله! أيُ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر) جوف الليل الأظلم، إذا نامت العيون، وهدأت الجفون.
ثم إن هذه العبادة تربي في الإنسان الإخلاص لله جل جلاله، فلا أحد يراك ولا يعلم بك إلا الله، وإنما تتقلب بين يديه، وهذه العبادة تعين الإنسان على كثيرٍ من الخير إذا أصبح، فمما يعين على أمور الدنيا إحياء الليل في طاعة الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءته فاطمة -كما في الحديث الصحيح- تسأله خادماً: قال لها: (أولا أدلك على خير من ذلك؟ إذا آويت إلى فراشك، تسبحين الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرينه أربعاً وثلاثين، فذلك خيرٌ لكِ من خادم) فإن هذا الذكر من المجرب أنه إذا تركه الإنسان وجد أثره في رزقه وحاله.
فذكر الله في الليل فيه خير كثير، ثم إن الإنسان إذا أصبح يتلألأ وجهه من نور الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور، والصدقة برهان) فمن أكثر من قيام الليل تلألأ وجهه بنور العبادة سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ [الفتح:29] أي: سيما نور العبادة، قال بعض السلف: (كان الرجل من الصحابة إذا أصبح كأن وجهه الشمس من نور العبادة). يتقلب بين يدي الله في جوف الليل، فلا يزال العبد بخير إذا أقام الليل وذكر الله في ليله وفي جوف الليل الأظلم سأل الله في الساعة التي تستجاب فيها الدعوة.
وأما بالنسبة لأعظم الأسباب التي تعين على ذلك فأعظمها وأجلها وأولها: كثرة الدعاء، بأن يرزقك الله عز وجل قيام الليل.
والأمر الثاني: أن تكثر من تلاوة القرآن، فإن القرآن يحبب في الطاعة كلها وبالأخص في قيام الليل.
ثم إن مما يعين على قيام الليل: علم الإنسان بعظيم أجره وجزيل ثوابه، فإن الركعة في جوف الليل الأظلم لها أجر كبير، خاصةً إذا كانت على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأطال قراءة القرآن، وتلذذ بمناجاة الحليم الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: وهذا أحد الصحابة قرأ سورة الكهف، فجاءت سحابةٌ أو غمامة، فقال رسول الله: (اقرأ فلان فيك السكينة تنزلت لقراءة القرآن) وإذا نزلت السكينة على العبد ثبت الله قلبه، ولذلك قلّ أن تجد إنساناً يحافظ على قيام الليل إلا وجدته في الصباح غالباً مأموناً من الفتنة بإذن الله عز وجل. فاحرص بارك الله فيك على هذا الخير.
أما ما يمنع الإنسان من قيام الليل: قال سفيان الثوري رحمه الله: (أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل ستة أشهر). فإن عقوق الوالدين وقطيعة الرحم -نسأل الله السلامة والعافية- والغيبة والنميمة وسب الناس واحتقارهم من أعظم الآفات التي تحول بين المهتدي والهداية، وكم من شابٍ مهتدٍ التزم بدين الله، فكان في بداية هدايته عفيف اللسان والجنان والجوارح والأركان، فكان من أكمل الناس إيماناً، ولما غيّر غيّر الله ما في قلبه، فأصبح يتكلم في زيدٍ وعمرو وينتقص زيداً وعمراً، ولربما تكلم في عالمٍ أو داعية أو نحو ذلك، فبلي بالفتنة على قدر ما أصاب من الذنوب.
فليتق الله الإنسان وليتفقد نفسه، فـ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
نسأل الله العليم أن يرزقنا السداد والرشاد. والله تعالى أعلم.