الشيخ عمر مختار
– تراجم لنخبة من علماء و مجاهدين من المغرب العربي رضي الله عنهم
الشيخ عمر مختار أسد الصحراء
استطاع عمر المختار الذي لُقِّبَ بأسد الصحراء أن يقف أمام دولة كإيطاليا يحاربها ويتحداها، وذلك عندما جاءت لتغتصب أرضه، فلم يرض بالمساومات ولكن ما رضي إلا بتحرير كامل أرضه، وألاّ يكون لأجنبي عليه سلطان أو سبيل.
لقد خاض عمر المختار معركة مع المحتل كانت من أروع المعارك التي سجلت في تاريخ الجهاد الإسلامي؛ فقد استطاع هو ومن معه أن يقف بأسلحة بدائية أمام جحافل الغاصب المحتل الذي يمتلك ترسانة أسلحة من أحدث الأسلحة في ذلك الوقت، ولكن ماذا تعمل هذه الترسانة في مواجهة من أفعم قلبه بالإيمان، وفطرت نفسه على العزة، لقد صدق عمر المختار ما عاهد الله عليه، وقضى نحبه شهيدًا لينعم في جنة عرضها السموات والأرض مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: لقد رأينا البطل الليبي المسلم (عمر المختار) الذي حارب الاستعمار الإيطالي، وجيوشه المجهزة بأحدث أسلحة عصره، بالقلة المؤمنة العزلاء، أو شبه العزلاء من جنده: وقف يحارب الطائرة بالحصان، والمدفع بالسيف. واستطاع أن ينزل بأعدائه ضربات موجعة، ولم يرض بالتسليم ساعة ما، رغم نفاد قوته المادية كلها، ولكنه ظل يقول للطليان: “لئن كسر المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقي”.
وكان مريضًا بالحمى، تهز رعدتها جسده، وترتعد بها فرائصه، ورغم هذا قال لجنوده: “اربطوني على ظهر جوادي بالحبال حتى لا أتخلف عن القتال معكم”.
وحين ظفر به جيش المستعمر وحكموا عليه بالإعدام، تقبل الحكم برحابة صدر، وابتسامة سخرية، وقال له بعضهم -قبل تنفيذ الحكم-: اطلب العفو، ونحن نطلق سراحك. فأجابهم بكل إباء وشمم: “لو أطلقتم سراحي لعدت لمحاربتكم من جديد”.
مولد عمر المختار
ولد أسد الصحراء عمر المختار في عام 1275هـ/ 1858م في البطنان بالجبل الأخضر ببرقة[1].
نسب عمر المختار
هو عمر بن مختار بن عمر المنفي، ينتمي إلى قبيلة منفة من بيت فرحات التي تنتقل في بادية برقة.
نشأة وتربية عمر المختار
نشأ عمر المختار وترعرع في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة، وصفاتهم الحميدة التي استمدوها من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله .
واختار الله عمر المختار يتيمًا، فقد توفي والده وهو ما زال صغيرًا أثناء قيامه برحلة الحج وعهد بولديه محمد وعمر إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور الواقعة شرق طبرق) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما محققًا رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم ألحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي، لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الأخوين والقبائل الأخرى.
وظهر منه نبوغ منذ صباه مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء، والفقهاء والأدباء والمربين الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام الخالدة، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وإفريقيا لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرفيعة ومكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير.
ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم، السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة، وكان يقوم بما عليه من واجبات عملية أسوة بزملائه الذين يؤدون أعمالاً مماثلة في ساعات معينة إلى جانب طلب العلم وكان مخلصًا في عمله متفانيًا في أداء ما عليه، ولم يعرف عنه زملاؤه أنه أجل عمل يومه إلى غده.
وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعًا، وكان الأساتذة يبلغون الإمام محمد المهدي أخبار الطلبة وأخلاق كل واحد منهم، فأكبر السيد محمد المهدي في عمر المختار صفاته وما يتحلى به من خلال، وأصبح على إلمام واسع بشئون البيئة التي تحيط به وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها وتوسع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فض الخصومات البدوية وما يتطلبه الموقف من آراء ونظريات، كما أنه أصبح خبير بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل.
وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو وهي اختبارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها، فهذه المعلومات تدل على ذكاء عمر المختار وفطنته منذ شبابه[2].
ويقول الأستاذ توفيق الواعي عن نشأة عمر المختار: لقد نشأ المختار في بيئة أكسبته الفقه في الدين وعلمته الدعوة إليه وأعظمت في عينيه فضيلة الجهاد، ولا أدل على ذلك من أنه قضى عمره يجاهد أعداء الإسلام، ويصارع أعظمهم جبروتًا وكبرًا على أرض ليبيا وخارجها، ولا شيء يصقل إيمان المسلم ويزيد من توكله على ربه كساحات المعارك ومقارعة الباطل والظالمين.
الأخلاقيات في حياة عمر المختار
لقد تربى عمر المختار في المسجد وعلى كتاب الله وسنة رسوله وتربت فيه الأخلاق الكريمة ومن أخلاقه التي تربى عليها خلق العزة والشجاعة، فلم يحن رأسه يومًا لأحد، وظل كالجبل الشامخ حتى لقي ربه شهيدًا. ومن المواقف التي تدل على عزته وشجاعته ما سطره الأستاذ علي الصلابي، وذلك لما كتب عن عمر المختار فقال: لقد تقرر سفر عمر المختار على رأس وفد إلى السودان يضم كل من السيد خالد بن موسى، والسيد محمد المسالوسي، وقرجيله المجبري وخليفة الدبار الزوي أحد أعضاء زاوية واو بفزان (وهو الذي روى القصة)، وفي الكفرة وجد الوفد قافلة من التجار من قبيلتي الزوية والمجابرة، وتجار آخرين من طرابلس وبنغازي تتأهب للسفر إلى السودان، فانضم الوفد إلى هؤلاء التجار الذين تعودوا السير في الطرق الصحراوية، ولهم خبرة جيدة بدروبها.
وعندما وصل المسافرون إلى قلب الصحراء بالقرب من السودان قال بعض التجار الذين تعودوا المرور من هذا الطريق: إننا سنمر بعد وقت قصير بطريق وعر لا مسلك لنا غيره، ومن العادة -إلا في القليل النادر- يوجد فيه أسد ينتظر فريسته من القوافل التي تمر من هناك، وتعودت القوافل أن تترك له بعيرًا كما يترك الإنسان قطعة اللحم إلى الكلاب أو القطط، وتمر القوافل بسلام واقترح المتحدث أن يشترك الجميع في ثمن بعير هزيل ويتركونه للأسد عند خروجه، فرفض عمر المختار بشدة قائلاً: (إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أبطلت، فكيف يصح لنا أن نعيد إعطاءها للحيوان؟! إنها علامة الهوان والمذلة، إننا سندفع الأسد بسلاحنا إذا ما اعترض طريقنا). .
وقد حاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه، فرد عليهم قائلاً: أنني أخجل عندما أعود وأقول أنني تركت بعيرًا إلى حيوان اعترض طريقي وأنا على استعداد لحماية ما معي وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها، وما كادت القافلة تدنو من الممر الضيق حتى خرج الأسد من مكانه الذي اتخذه على إحدى شرفات الممر، فقال أحد التجار وقد خاف من هول المنظر وارتعشت فرائصه من ذلك: أنا مستعد أتنازل عن بعير من بعائري، ولا تحاولوا مشاكسة الأسد، فانبرى عمر المختار ببندقيته وكانت من النوع اليوناني، ورمى الأسد بالرصاصة الأولى فأصابته ولكن في غير مقتل، واندفع الأسد يتهادى نحو القافلة، فرماه بأخرى فصرعته، وأصر عمر المختار على أن يسلخ جلده ليراه أصحاب القوافل، فكان له ما أراد.
إن هذه الحادثة تدل على شجاعة عمر المختار وقد تناولتها المجالس يومذاك بمنتهي الإعجاب. وقد سأل الأستاذ محمد الطيب الأشهب عمر المختار نفسه عن هذه الحادثة في معسكر المغاربة بخيمة السيد محمد الفائدي عن هذه الواقعة فأجاب بقوله: تريدني يا ولدي أن أفتخر بقتل صيد قال لي ما قاله قديمًا أحد الأعراب لمنافسه وقد قتل أسدًا: (أتفتخر عليّ بأنك قتلت حشرة). وامتنع عمر المختار بقول الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
إن جواب عمر المختار بهذه الآية الكريمة يدل على تأثره العميق بالقرآن الكريم؛ لأنه تعلم أن أهل الإيمان والتوحيد في نظرتهم العميقة لحقيقة الوجود، وتطلعهم إلى الآخرة ينسبون الفضل إلى العزيز الوهاب I، ويتخلصون من حظوظ نفوسهم[3].
عمر المختار وفكره العسكر
لم يسبق لعمر المختار أن تخرج من كلية حربية أو عسكرية ولم يتلق مهارته الحربية من جيش أو كلية، إنما تربى عمر المختار في ساحات المعارك والجهاد فسبق القواد في ذلك، وكانت معارك المجاهد عمر المختار تعتمد على الكر والفر فلم يكن لديهم جيشًا نظاميا، وكانت حرب عصابات لأن المجاهدين لا يمتلكون نفس العتاد الذي يملكه المحتل ولو واجهوهم في حرب لكانت وبالاً على المجاهدين لذا اعتمد عمر المختار في حربه على هذا النوع من المقاومة، ولقد خاض عمر المختار بهذا الأمر كما أورد الجنرال غرسياني في كتابه أنه التقى مع عمر المختار في مائتين وستين معركة خلال الثمانية عشر شهرًا ابتداء من حكمه في برقة إلى أن وقع عمر المختار أسيرًا وقد ثبت المجاهدون في حالتي الدفاع والهجوم.
وكان عمر المختار يقسم جنده إلى مجموعات وذلك حسب الانتماء القبلي كما كان يفعل صحابة النبي في الفتوحات وكان يضع أسر كل قبيلة وراء قبيلتها وذلك تزداد همة المقاتلين لدفاع عن أهلهم وذويهم من الأطفال والنساء.
يقول الدكتور توفيق الواعي عن عقلية عمر المختار العسكرية كان عمر المختار ذا عقلية عسكرية فذة اكتسبها من خلال حياته في الزوايا التابعة للحركة السنوسية، حيث كان التدريب عل أعما الجهاد جزءًا أساسيًا من برنامج الحياة فيها[4].
يذكر الأستاذ علي الصلابي النظام العسكري الذي استخدمه عمر المختار مع جنده فيقول: وقد استخدم عمر المختار النظام العسكري العثماني، فبالإضافة إلى القائمقام والقوماندان هناك الرتب الآتية:- بكباشي – يوزباشي – ملازم أول – ملازم ثاني – كوجك ضابط (ضابط صغير) باش شاوش – شاوش – أمباشي.
وكانت الترقيات تتم على أسس ميدانية بناء على ما يقدمه الشخص من أعمال وبطولات في ميادين المعارك والمواقف الدقيقة، إذ يرفع إلى عمر المختار تقرير من الرئيس المباشر بشرح الحالة التي استحق عليها المعني الترقية، ويصدر بذلك أمر كتابي من عمر المختار على بقية المجاهدين.
وكان هناك مجلس أعلى يرأسه المختار يتكون من: يوسف بورحيل، حسين الجويفي، الفضيل بوعمر، محمد السركسي، موسى غيضان، محمد مازق، محمد العلواني، جربوع سويكر، قطيط الحاسي، رواق درمان وفي حالة غياب عمر المختار يرأس المجلس يوسف بورحيل.
وكان لكل من الأدوار مجلس يتكون من مشايخ القبائل وأعيانها من المعروفين بالحكمة وسداد الرأي: ومهمة هذا المجلس استشارية وهو في حالة انعقاد دائم لمواجهة الطوارئ والإسهام في حل المشاكل التي قد تحدث بالدور[5].
أهم المعارك التي شارك فيها عمر المختار ودوره فيها
لقد شهدت صحراء ليبيا المعارك التي خاضها عمر المختار وسطر عليها بدماء الشهداء أروع آيات العزة والجهاد، لقد كبد المجاهدون المحتلين خسائر لا تحصى في الأرواح والعتاد، وثبتوا أمام عدوهم مع أنهم لا يمتلكون سلاحًا كما يملك عدوهم من السلاح، لقد حارب عمر المختار الطائرة بسيفه حتى امتلك الخوف قلوبهم بمجرد سماع اسم عمر المختار. ومن معاركه التي خاضها مع الطليان المحتلين:
معركة فزان
كانت القيادة الايطالية حريصة على الاستيلاء على فزان فخرجت في أواخر يناير 1928م قوتان.. احدهما من غدامس والأخرى من الجبل الأخضر، وكان الجيش بقيادة غراسياني والتحم المجاهدون مع ذلك الجيش في معركة دامية استمرت خمسة أيام بتمامها، انهزم فيها الطليان شر هزيمة فتقهقروا تاركين ما لديهم من مؤن وذخائر ثم ما لبث أن خرجت قوة أخرى قصدت فزان مباشرة، فعلم المجاهدون بأمرها بعد خروجها بثلاث أيام وانسحبوا إلى الداخل، حتى إذا وصل هذا الجيش الجديد إلى مكان يقع بين جبلين يعرفان بالجبال السود انقض المجاهدون على الطليان وأرغموهم على التقهقر، فعمل قواد الحملة إلى الفرار بسياراتهم تاركين وراءهم الجيش، الذي وقع أكثره في قبضة المجاهدين، فاستأصلوهم عن آخرهم، وعندئذ لم يجد الطليان مناصا من أن يجددوا محاولتهم فخرجت هذه المرة قوات عظيمة من جهات متعددة غير أن الطليان ما لبثوا أن انهزموا في هذه المعارك وتركوا وراءهم غنائم وأسلابًا كثيرة[6].
معركة أم الشافتير (عقيرة الدم)
يقول الأستاذ علي الصلابي عن هذه المعركة ونتائجها لقد استمر المجاهدون في الجبل الأخضر يشنون الهجمات على القوات الإيطالية وحققوا انتصارات رائعة من أشهرها موقعة يوم الرحيبة بتاريخ
28مارس 1927م جنوب شرقي المرج قرب جردس العبيد ووقعت بعد معركة الرحيبة معارك ضارية في بئر الزيتون 10 محرم 1335هـ/ 10 يوليو 1927م، وراس الجلاز 13 محرم 1335هـ/ 13 أكتوبر 1927م.
أراد الإيطاليون أن ينتقمون لقتلاهم في معركة الرحيبة، فشرعت تعد العدة للانتقام لقتلاها الضباط الستة وأعوانهم المرتزقة البالغ عددهم (312) في محاولة لإعادة معنوياتهم المنهارة نتيجة لتلك الهزيمة الساحقة تمّ إعداد الجيوش الجرارة، لتتخذ من الجبل الأخضر قاعدة لها على النحو التالي:
1- الجنرال مازيتي القائد العام للقوات الإيطالية قائدًا لإحدى الفرق فوق الجبل الأخضر 8 يوليو من مراوة: أربع فرق أرترية – فرقة ليبية – أربع فرق – خيالة – بطارية أرترية.
2- الكورنيل اسبيرا إنذائي: 8 يوليو من الجراري (جردس الجراري) أوجردس البراعصة أربع فرق أرترية – فرقة ليبية – بطارية ليبية – فرقة غير نظامية.
3- الكورنيل منتاري: 8 يوليو من خولان – فرقة أرتريا – فرقة غير نظامية.
4- الماجور بولي: 9 يوليو غوط الجمل – فرقة مهما ريستا – فرقة سيارات مصفحة – نصف فرقة ليبلير – فصيلين قناصة على الدبابات.
ويضاف إلى تلك الاستعدادت سلاح الطيران الذي انطلق من قواعده بالمرج ومراوه وسلنطة.
لقد كانت قوات الايطاليين ضخمة مما تدلنا على خوفهم ورهبتهم من قوات المجاهدين.
كان عدد المجاهدين مابين 1500 إلى 2000 مجاهدًا منهم حوالي 25% من سلاح الفرسان ويرفقهم حوالي 12 ألف جمل وما يثقل تحركاتهم من النساء والأطفال والشيوخ والأثاث علمت ايطاليا بواسطة جواسيسها بموقع المجاهدين في عقيرة أم الشفاتير فأرادت أن تحكم الطوق على المجاهدين فزحفت القوات الايطالية نحو العقيرة بعد مسيرة دامت يومين كاملين واستطاعت أن تضرب حصارًا حول المجاهدين من ثلاث جهات، وبقوات جرارة تكونت من حوالي (2000) بغل و5000 جندي، 1000 جمل بالإضافة إلى السيارات المصفحة والناقلة.
علم المجاهدون بذلك وأخذوا يعدون العدة لملاقاة العدو فأعدوا خطة حربية وقاموا بحفر الخنادق حول أطراف المنخفض ليستتر بها المجاهدون وخنادق أخرى لتحتمي بها الأسر من نساء وأطفال وشيوخ، وتم ترتيب المجاهدين على شكل مجموعات حسب انتمائهم القبلي ووضعت أسر كل قبيلة خلف رجالها المقاتلين، وكان قائد تلك المعركة التقي الزاهد الورع الشيخ حسين الجويفي البرعصي وكان عمر المختار من ضمن الموجودين في تلك المعركة.
كان الشيخ حسين الجويفي ممن تجرد للجهاد في سبيل الله وطلب رحمة الله تعالى وكان يقول: (أنا لا أريد قيادة ولا منصبًا بل أريد جهادًا رغبة في ثواب الله تعالى).
كان ذلك الصنديد محل تقدير من قبل إخوانه قال في حقه قائده الأعلى عمر المختار عقب استشهاده: أتذكر حسين الجويفي عند اللقاء مع العدو أو عند قراءة القرآن الكريم وقت الورد.
كما عرف عنه انه لم يبرح فرسه يومًا أثناء المعركة لينال من أسلاب العدو، بل يتركها للمجاهدين لعفته وقناعته بما يملك من أموال ومواشي.
لقد أسندت إليه قيادة المعركة لمعرفته بشعاب ودروب المنطقة التي كان يسكنها مع كونه احد قادة الجهاد، وأحد المستشارين لعمر المختار، وقائمقام البراعصة والدرسة في فترة سابقة، فكان في تلك المعركة فوق جواده يجوب الميمنة والميسرة والقلب وهو عاري الرأس لا يخشى الموت يوزع صناديق الذخيرة على المقاتلين تارة ويطلق عبارات التشجيع مرة أخرى، ويقوم بتحريك جبهات القتال، وتنظيم هجومات المجاهدين، وترتيب صفوفهم.
وسقط الشهداء واشتدت المعركة، وارتفعت درجة حرارة البنادق بسبب استمرار إطلاق العيارات النارية واستعمل المجاهدون الخرق البالية لتقيهم حرارة مواسير البنادق التي لا تطيقها يد المجاهد. وكان بعض المجاهدين يملك بندقيتين يستعمل الواحد مدة ثم يتركها حتى تبرد ويتناول الأخرى.
وخصص القائد حسين فرقة من المجاهدين للتصدي للمصفحات المهاجمة من الجنوب وعددها ثلاثون مصفحة ولعب كومندار طابور المعية المجاهد سعد العبد السوداني دورًا بارزًا وأظهر شجاعة نادرة بأن قاد تلك الفرقة المواجهة للمصفحات الايطالية وتمكن من تدمير أغلبها مع رجاله وانتزع المجاهد رمضان العبيدي العلم الايطالي من على أحد المصفحات، وبدأ الجيش الايطالي في التقهقر ودخل الرعب نفوس ضباطه وجنوده الذين وجدوا فرصة الحياة في الهروب وبالرغم من قصف الطائرات إلا أن الإيمان القوي، واحتساب الأجر عند الله كان دافعًا مهمًّا لدى المجاهدين.
كانت خسائر المجاهدين في الأرواح 200 شهيد من بينهم القائمقام محمد بونجوى المسماري الذي استشهد في اليوم الثالث أثر إصابته بجرح مميت، وكانت له مكانة عظيمة في نفوس المجاهدين ووالد زوجة عمر المختار الذي بكاءه بكاءً حارًا وقال بعد أن سمع باستشهاده (راحوا الكل يا عين الجيران وأصحاب الغلا).
واستشهد كل من جبريل العوامي، وستة من قبيلة العوامة، ومحمد بو معير الدرسي والشلحي الدرسي، ومحمد الصغير البرعصي وفقد المجاهدون في تلك المعركة عددًا كبيرًا من الابل والمواشي وتم حرق بعض الخيام من جراء الغارات الجوية.
ومكث المجاهدون طيلة الليل يدفنون الشهداء وينقلون الجرحى، وقبل بزوغ الفجر رحلوا عن ذلك الموقع، بهدف الإعداد والاستعداد للقاء العدو في موقع جديد من مواقع القتال وأصبحت القوات الإيطالية كما يقول تيروتسي: (أصبحت الآن منهوكة القوى تخور إعياء من شدة المعارك المستمرة منذ فترة طويلة دون توقف…).
نتائج المعركة فيما يلي:
كانت معركة أم الشفاتير بداية نقطة فاصلة في اتباع استراتيجية جديدة عند عمر المختار، وهي ضرورة إعادة تنظيم المجاهدين على هيئة فرق صغيرة، تلتحم مع العدو عند الضرورة، وتشغله في أغلب الأوقات مما يقلل في عدد الشهداء أثناء المعارك ويلحق الخسائر الفادحة بالأعداء وفق التكتيك الجديد لحرب العصابات (اهجم في الوقت المناسب وانسحب عند الضرروة).
لمح عمر المختار بنظره الثاقب ملامح السياسة الفاشستية الجديدة وهي الإبادة والتدمير (للمصالح والرجال)، فاتخذ إجراءات ترحيل النساء والأطفال والشيوخ إلى السلوم لحمايتهم من الغارات الجوية الايطالية، وتيسيرًا لسهولة تحرك المجاهدين وفق ما يتطلبه الموقف الجديد.
كما سُمَحَ لأحد الأخوين بالهجرة للمحافظة على وريث لهما فيما بعد حتى يكون دائمًا هناك من يطالب بحقوقه ويزعج المستعمرين الطليان، وللتعريف بالقضية الليبية بتلك البلدان ونتج عنه فيما بعد تشكيل الجاليات الليبية في الخارج
أيقن الايطاليون أنه لا جدوى من الاستمرار في العمليات العسكرية ضد المجاهدين، مما كان سببًا في توقفها طلية سنة 1928م. لقد تحققت لموسليني ما قاله من قبل: (إننا لا نحارب ذئابًا كما يقول غراتسياني بل نحارب أسودًا يدافعون بشجاعة عن بلادهم..إن أمد الحرب سيكون طويلاً)[7].
من كلمات عمر المختار
لم يؤثر عن المجاهد عمر المختار غير أعماله الجهادية وما قام به ضد المحتل الإيطالي والذب عن وطنه ودينه إلا أنه كانت له كلمات تدل على شخصيته، وعلى عظم النشأة التي نشأ عليه، وفي مقابلة له مع محمد أسد قال: إننا نقاتل؛ لأن علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن، وليس لنا أن نختار غير ذلك[8].
وكانت له كلمات تدل على همته وعزيمته التي لم تعرف الضعف يومًا رغم السن التي وصل إليها، فقال في تحدٍّ لما دعي إلى التفاوض مع الطليان: (إننا حاربناكم ثماني عشرة سنة، ولا نزال بعون الله نحاربكم، ولن تنالوا منا بالتهديد) إلى أن يقول: (لن أبرح الجبل الأخضر مدة حياتي، ولن يستريح الطليان حتى توارى لحيتي في التراب)[9].
وعندما عرض عليه أن يترك ساحة الجهاد، ويسافر إلى الحج قال: (لن أذهب ولن أبرح هذه البقعة حتى يأتي رسل ربي، وإن ثواب الحج لا يفوق ثواب دفاعنا عن الوطن والدين والعقيدة).
وقال: (كل مسلم الجهاد واجب عليه وليس منه، وليس لغرض أشخاص، وإنما هو لله وحده)[10].
عمر المختار في الأسر
بعد حياة حافلة بالجهاد ورغم كبر سنه امتن الله على عمر المختار بالشهادة، ولم يستطع أعداؤه قتله أثناء المعارك بل ما قتلوه إلا صبرًا بعد وقوعه في الأسر، ويقول الأستاذ علي الصلابي: لقد ظل المختار في الجبل الأخضر يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله وكانت من عادة عمر المختار الانتقال في كل سنة من مركز إقامته إلى المراكز الأخرى التي يقيم فيها إخوانه المجاهدون لتفقد أحوالهم، وكان إذا ذهب لهذا الغرض يستعد للطوارئ، ويأخذ معه قوة كافية تحرسه من العدو الذي يتربص به الدوائر في كل زمان ومكان، ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب في هذه السنة كعادته في نفر قليل يقدر بمائة فارس، ولكنه عاد فرد من هذا العدد ستين فارسًا وذهب في أربعين فقط.
ويوجد في الجبل الأخضر واد عظيم معترض بين المجاهدين اسمه وادي الجريب (بالتصغير) وهو صعب المسالك كثير الغابات، كان لا بد من اجتيازه، فمر به عمر المختار ومن معه، وباتوا فيه ليلتين، وعلمت بهذا إيطاليا بواسطة جواسيسها في كل مكان، فأمرت بتطويق الوادي على عجل من جميع الجهات بعد أن جمعت كل ما عندها من قوة قريبة وبعيدة، فما شعر عمر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو؛ وقرر منازلة الأعداء وجهًا لوجه فأما أن يشق طريقًا يمكنه من النجاة أو يلقى ربه شهيدًا في الميدان الذي ألف فيه مصارعة الأعداء، والتحمت المعركة داخل الوادي، وحصد رصاص المجاهدين عددًا كبيرًا من الأعداء، وسقط الشهداء، وأصيب عمر المختار بجراح في يده، وأصيب فرسه بضربة قاتلة، وحصلت يده السليمة تحت الفرس فلم يتمكن من سحبها، ولم تسعفه يده الجريحة والتفت المجاهد بن قويرش فرأى الموقف المحزن وصاح في إخوانه الذين شقوا الطريق للخروج من الحصار قائلاً: (الحاجة التي تنفع عقبت أي تخلفت).
فعادوا لتخليص قائدهم ولكن رصاص الطليان حصد أغلبهم، وكان ابن قويرش أول من قتل وهو يحاول إنقاذ الشيخ الجليل، وهجم جنود الطليان على الأسد الجريح دون أن يعرفوا شخصيته في البداية، وتم القبض عليه وتعرف عليه احد الخونة، وجاء الكمندتور داود باتشي متصرف درنة ليتعرف على الأسير وبمثل سرعة البرق نقل عمر المختار إلى ميناء سوسة محاطًا بعدد كبير من الضباط والجنود الإيطاليين، وأخذت كافة الاحتياطات لحراسة جميع الطرق والمواقع القريبة لتأمين وصول المجاهد العظيم إلى سوسة، ومن ثَمَّ نقل فورًا إلى بنغازي عن طريق البحر[11].
محاكمة عمر المختار
لقد حوكم عمر المختار أمام محكمة مشكلة من أعدائه ولم تكن له تهمة غير أنه كان يدافع عن بلده ودينه كأي رجل حر مسلم صاحب عزة.
لقد شكلوا له محكمة ليصدروا عليه حكمًا بالإعدام أمام أبناء بلدته.
وينقل الأستاذ علي الصلابي عن الدكتور العنيزي وصف هذه المحاكم وتنفيذ الحكم فيقول: (جاء الطليان بالسيد عمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبلاً بالحديد، وحوله الحرس من كل جانب.. وكان مكاني في القاعة بجوار السيد عمر وأحضر الطليان أحد التراجمة الرسميين واسمه نصرت هرمس (فلما افتتحت الجلسة وبدأ استجواب السيد، بلغ التأثر بالترجمان، حدًا جعله لا يستطيع إخفاء تأثره وظهر عليه الارتباك، فأمر رئيس المحكمة باستبعاده وإحضار ترجمان آخر فوقع الاختيار على أحد اليهود، وهو لمبروزو، من بين الحاضرين في الجلسة (وقام لمبروزو بدور المترجم، وكان السيد عمر -رحمه الله- جريئًا صريحًا، يصحح للمحكمة بعض الوقائع، خصوصًا حادث الطيارين الإيطاليين أوبر وبياتي.
وبعد استجواب السيد ومناقشته وقف المدعي العام بيدندو، فطلب الحكم على السيد بالإعدام.
(وعندما جاء دور المحامي المعهود إليه بالدفاع عن السيد عمر وكان ضابطًا إيطاليًّا يدعى الكابتن لونتانو، وقف وقال: (كجندي لا أتردد البتة إذا وقعت عيناي على عمر المختار في ميدان القتال، في إطلاق الرصاص عليه وقتله وافعل ذلك كإيطالي أمقته وأكرهه، ولكنني وقد كلفت الدفاع عنه فإني اطلب حكمًا، هو في نظري أشد هولاً من الإعدام نفسه، وأقصد بذلك الحكم عليه بالسجن مدى الحياة نظرًا لكبر سنه وشيخوخته).
وعندئذ تدخل المدعي العمومي، وقطع الحديث على المحامي وطلب من رئيس المحكمة أن يمنعه من إتمام مرافعته مستندًا في طلبه هذا إلى أن الدفاع خرج عن الموضوع، وليس من حقه أن يتكلم عن كبر سن عمر المختار وشيخوخته ووافقت المحكمة، أمر القاضي المحامي بألاّ يخرج عن الموضوع، ويتكلم بإيجاز، وهنا تكلم المحامي بحدة وقال: إن عمر المختار الذي هو أمامكم وليد هذه الأرض قبل وجودكم فيها، ويعتبر كل من احتلها عنوة عدوًّا له، ومن حقه أن يقاومه بكل ما يملك من قوة حتى يخرجه منها أو يهلك دونها هذا حق أعطته له الطبيعة والإنسانية.
وهنا كثر الصياح من الحاضرين بإخراج المحامي وإصدار الحكم على المتهم الذي طالب به المدعي العام. ولكن المحامي استمر قائلاً العدالة الحقة لا تخضع لأي سلطان ولا لأية غوغاء وإنما يجب أن تنبع من ضميرنا وإنسانيتنا وهنا قامت الفوضى خارج المحكمة، وقام المدعي العام محتجًا على المحامي، ولكن المحامي استمر في دفاعه غير مبال بكل هذا بل حذر القاضي أن يحكم ضميره قائلاً: إن هذا المتهم عمر المختار الذي انتدبت من سوء حظي أن أدافع عنه شيخ هرم حنت كاهله السنون وماذا بقي له من العمر بعد ما أتم السبعين سنة، وإني أطلب من عدالة المحكمة أن تكون رحيمة من (تحقيق) العقوبة عنه لأنه صاحب حق ولا يضر العدالة إذا أنصفته بحكم أخف وإنني أحذر عدالة محكمتكم حكم التاريخ لأنه لا يرحم فهو عجلة تدور وتسجل كل ما يحدث في هذا العالم المضطرب وهنا كثر الضجيج في الخارج ضد المحامي ودفاعه.
ولكن المحامي استمر في دفاعه قائلاً: سيدي القاضي حضرات المستشارين لقد حذرت المحكمة من مغبة العالم الإنساني والتاريخ وليس لدي ما أضيفه إلاّ طلب تخفيف الحكم على هذا الرجل صاحب الحق من الذود عن أرضه ودينه وشكرًا).
وعندما قام النائب العام لمواصلة احتجاجه قاطعه القاضي برفع الجلسة للمداولة وبعد مضي فترة قصيرة من الانتظار دخل القاضي والمستشاران والمدعي العام بينما المحامي لم يحضر لتلاوة الحكم القاضي بإعدام عمر المختار شنقًا حتى الموت وعندما ترجم الحكم إلى عمر المختار قهقه بكل شجاعة قائلاً الحكم حكم الله لا حكمكم المزيف – إنا لله وإنا إليه راجعون.
وأراد رئيس المحكمة أن يعرف ما قاله السيد عمر.. فسأل الترجمان أن ينقل إليه عبارته، ففعل، وعندئذ، بدا التأثير العميق على وجوه الإيطاليين أنفسهم الذين حضروا هذه المحكمة الصورية وأظهروا إعجابهم لشجاعة شيخ المجاهدين بليبيا الحبيبة وبسالته في آن واحد.
وأما المحكمة، فقد استغرقت من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة وخمس عشرة دقيقة فحسب، من الساعة الخامسة مساء إلى الساعة السادسة والربع وكذلك قضت إرادة الله تعالى أن يتحكم الطليان في مصير البطل، لتتم الإرادة الإلهية وتمضي الحكمة الربانية {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 110].
إعدام شيخ الجهاد عمر المختار في بلادنا الحبيبة
وفي يوم 16 من سبتمبر من صباح يوم الأربعاء من سنة 1931م عند الساعة التاسعة صباحًا نفذ الطليان في (سلوق) جنوب مدينة بنغازي حكم الإعدام شنقًا في شيخ الجهاد وأسد الجبل الأخضر بعد جهاد طويل ومرير.
ودفعت الخسة بالايطاليين أن يفعلوا عجبًا في تاريخ الشعوب، وذلك أنهم حرصوا على أن يجمعوا حشدًا عظيمًا لمشاهدة التنفيذ فأرغموا أعيان بنغازي، وعددًا كبيرًا من الأهالي من مختلف الجهات على حضور عملية التنفيذ فحضر مالا يقل عن عشرين ألف نسمة. على حد قول غراسياني في كتاب برقة الهادئة.
ويقول الدكتور العنيزي (لقد أرغم الطليان الأهالي والأعيان المعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة، وحضور التنفيذ وكنت أحد أولئك الذين أرغمهم الطليان على المحاكمة، ولكني وقد استبد بي الحزن شأني في ذلك شأن سائر أبناء جلدتي، لم أكن استطيع رؤية البطل المجاهد على حبل المشنقة فمرضت، ولم يعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشئوم، إلا عندما تيقنوا من مرضي وعجزي عن الحضور.
ويا لها من ساعة رهيبة تلك التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين إلى حبل المشنقة، وقد ظل المختار يردد الشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
لقد كان الشيخ الجليل يتهلهل وجه استبشارًا بالشهادة وارتياحًا لقضاء الله وقدره، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وبصوت مدوي لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار إذا ربما يتحدث إليهم أو يقول كلامًا يسمعونه وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء.
وهناك اعمل فيه الجلاد حبل المظالم فصعدت روحه الطاهرة إلى ربها راضية مرضية، هذا وكان الجميع من أولئك الذين جاءوا يساقون إلى هذا المشهد الرهيب ينظرون إلى السيد عمر وهو يسير إلى المشنقة بخطى ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمثابة التحية الأخيرة لأبناء وطنه، وقد سمعه بعض المقربين منه ومنهم ليبيون أنه صعد سلالم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ آذان الصلاة وكان أحد الموظفين الليبيين من أقرب الحاضرين إليه، فسمعه عندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28].
لقد استجاب الله دعاء الشيخ الجليل وجعل موته في سبيل عقيدته ودينه ووطنه، لقد كان يقول: اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة)[12].
كانت هذه حياة عمر المختار الذي لم يعرف التواني ولا الكسل، فقد حارب أعداءه رغم قلة عتاده وعدده بالنسبة لهم، وكان لذلك الأثر الكبير في تحرير ليبيا من المحتلين بعد ذلك؛ ليعلم المتواطئون الذين يريدون أن يبيعوا فلسطين بأبخس الأثمان، أن تحرير الأرض لا يكون بالمعاهدات أو المؤتمرات، إنما بالجهاد وحمل السلاح، وقبل ذلك بقلب مفعم بالإيمان، ولنا في عمر المختار عبرة وعظة.
قالوا عن عمر المختار
ومليحة شهدت لها ضراتها *** والفضل ما شهدت به الأعداء
لقد أعجب الأعداء قبل الأصدقاء بشخصية هذا الرجل الذي ناهز السبعين من عمره وما زال يقاوم المحتلين؛ لذا فقد مدحه الشعراء، وأثنى عليه الخطباء.
قال عنه المهدي السنوسي: (لو كان لدينا عشرة مثل المختار لاكتفينا)[13].
وأثنى عليه محاربوه، فقال الجنرال غراسياني: (كان عمر المختار كرئيس عربي مؤمن بقضية وطنه وله تأثير كبير على أتباعه مثل الرؤساء الطرابلسيين يحاربون بكل صدق وإخلاص أقول ذلك عن تجارب مرت بي أثناء الحروب الليبية، وكان عمر المختار من المجاهدين الكبار لما له من مكانة مقدسة بين أتباعه ومحبيه، إن عمر المختار يختلف عن الآخرين فهو شيخ متدين بدون شك، قاسي وشديد التعصب للدين ورحيم عند المقدرة ذنبه الوحيد يكرهنا كثيرًا وفي بعض الأوقات يسلط علينا لسانه ويعاملنا بغلظة، مثل الجبليين كان دائمًا مضادًّا لنا ولسياستنا في كل الأحوال لا يلين أبدًا ولا يهادن إلا إذا كان الموضوع في صالح الوطن العربي الليبي، ولم يخن أبدًا مبادئه فهو دائمًا موضع الاحترام رغم التصرفات التي تحدث منه في غير صالحنا أن خيانة موقعة (قصر بنقدين) ضيعت على عمر المختار كل الفرص التي يمكن للدولة الايطالية ان ترحمه فيها.
وقال غراسياني في مذكراته: (أما وصف عمر المختار فهو معتدل الجسم عريض المنكبين شعر رأسه ولحيته وشواربه بيضاء ناصعة، يتمتع بذكاء حاضر وحاد، كان مثقفًا ثقافة علمية دينية له طبع حاد ومندفع يتمتع بنزاهة خارقة لم يحسب للمادة أي حساب متصلب ومتعصب لدينه، وأخيرًا كان فقيرًا لا يملك شيئًا من حطام الدنيا إلا حبه لدينه ووطنه رغم أنه وصل إلى أعلى الدرجات حتى أصبح ممثلاً كبيرًا للسنوسية كلها). وهذا وصف دقيق يدل بوضوح على عظمة المختار وإمكانياته الذاتية التي وهبه الله إياها، فتقلد بسببها أكبر المناصب، وخاض أكثر المعارك، وصفه عدوه بصفات الورع والتدين، ومثقف ثقافة دينية وعلمية، وصفه بشدة المراس والصبر على الشدائد، وهكذا يصنع الإسلام من أتباعه في ميادين النزال وساحات القتال.
وقال غراتسياني في حديثه مع عمر المختار في كتابه (برقة المهداة): عندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف (المرابطين) الذين التقيتهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية… يداه مكبلتان بالسلاسل رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وكان وجهه مضغوطا؛ لأنه كان مغطى رأسه بالجرد، ويجر نفسه بصعوبة نتيجة الإعياء، والخلاصة تخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس ككل الرجال، له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسير[14].
وقال عنه روبرتو لونتانو: (إن هذا المتهم الذي انتدبت للدفاع عنه، إنما يدافع عن حقيقة كلنا نعرفها، وهي الوطن الذي طالما ضحينا نحن في سبيل تحريره، إن هذا الرجل هو ابن لهذه الأرض قبل أن تطأها أقدامكم، وهو يعتبر كل من احتلها عنوة عدوًّا له، ومن حقه أن يقاومه بكل ما يملك من قوة، حتى يخرجه منها أو يهلك دونها، إن هذا حق منحته إياه الطبيعة والإنسانية. إن العدالة الحقة لا تخضع للغوغاء، وإني آمل أن تحذر حكم التاريخ، فهو لا يرحم، إن عجلته تدور وتسجل ما يحدث في هذا العالم المضطرب)[15].
وقالت عنه صحيفة التايمز البريطانية في مقال نشرته في اليوم التالي لإعدامه تحت عنوان “نصر إيطالي”: “حقق الإيطاليون انتصارًا خطيرًا ونجاحًا حاسمًا في حملتهم على المتمردين السنوسيين في برقة، فقد أسروا وأعدموا الرجل الرهيب عمر المختار شيخ القبيلة العنيف الضاري…”، ثم تستمر الصحيفة حتى تقول: “ومن المحتمل جدًّا أن مصيره سيشل مقاومة بقية الثوار، والمختار الذي لم يقبل أي منحة مالية من إيطاليا، وأنفق كل ما عنده في سبيل الجهاد وعاش على ما كان يقدمه له أتباعه، واعتبر الاتفاقيات مع الكفار مجرد قصاصات ورق، كان محل إعجاب لحماسته وإخلاصه الديني، كما كان مرموقًا لشجاعته وإقدامه”[16].