شقاقيون لا قرآنيون
شقاقيون لا قرآنيون – الشيخ عبدالله محمد الطوالة
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ اللطيفِ الرءوفِ، الذي لمْ يزلْ بالمعروف معروفًا، وبالجودِ والإحسانِ موصوفًا، أحمدهُ سبحانهُ وأشكرهُ، وأتوبُ إليهِ وأستغفرهُ، كُلّ يومٍ هو في شأنٍ، يُيسِّرُ عسيرًا، ويجبرُ كسِيرًا، ويُغيثُ ملهُوفًا، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، واهبُ النِّعمِ، ودافعُ النِّقمِ، وغافرُ اللَّمَمِ، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النساء: 125].
والصلاةُ والسلامُ على خير الأنامِ، وبدرِ التمامِ، من زكَّى الله بصرهُ فقال: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [النجم: 17]، وزكّى عقلهُ فقال: ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾ [النجم: 2]، وزكّــى فـــؤادهُ فــقــال: ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11]، وزكّى لسانهُ فقال: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النجم: 3]، وزكَّى شرعهُ فقال: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4]، وزكّاهُ كلَّهُ فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبهِ أجمعين، والتابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وسلم تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ رحمكم اللهُ، ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، فمن عرَفَ الدنيا قطع منها الرجاء، فلم يفرَح فيها برخاءٍ، ولا يحزَن فيها على بلاءٍ، فالأعمار سريعةُ الفوات، والصحةُ تعرِضُ لها الآفات، ودوام الحالِ من المستحيلات، فاستعدُّوا رحمكم اللهُ ليومٍ تُرجَعونَ فيه إلى اللهِ؛ ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]، ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76].
معاشر المؤمنين الكرام، من أمثال العربِ الحكيمة، وأقوالهم الجميلة: “إذا عُرِفَ السببُ بطُلَ العجب”، فما هو يا ترى سببُ هذه الهجمةِ العجيبةِ على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما هو سرُّ الاستماتةِ الغريبةِ في ردِّ أحاديثِ المصطفى صلى الله عليه وسلم وعدمِ الأخذِ بها؟ ويدخلُ ضمن ذلك الطعنُ في الإمام البخاري وصحيحه، ويدخلُ في ذلك أيضًا الهجومُ على الصحابي الجليلِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ وأرضاه، فما هو السببُ وراءَ ذلك كُلهِ، سأذكرُ ذلك في نهاية الخطبةِ الأولى بإذن الله.
أحبَّتي الكرام، المسلمُ الواعي، المنتبهُ لما يدورُ حولهُ، يعلمُ أنَّ هناك توجهًا خبيثًا ماكرًا، ازدادَ في الآونة الأخيرةِ انتشارًا ورواجًا، واغترَّ به للأسف الشديدِ كثيرٌ من الناس، هذا التوجُّهُ يُعرفُ أهلهُ بالقرآنيِّين، وحقيقة فليسَ هذا هو الوصفُ الصحيحُ لهم، بل الأصحُّ أن نُسميهم بالشِقاقِيين، فهو تعبيرٌ قرآنيٌّ ينطبقُ عليهم تمامًا، فمن هم هؤلاء الشِّقاقِيون؟ إنهم الذين يزعمونَ أنَّ رسالةَ اللهِ في القرآن لا تحتاجُ إلى مصدرٍ تشريعيٍّ آخر؛ ولذا فهم لا يعترفون بالسنة المطهرة، ولا بالأحاديث الشريفةِ كمصدرٍ للتشريع بحجةِ أنهُ قد دُسَّ فيها كثيرٌ من الأحاديث الموضوعة، وأنهُ قد تأخرَ تدوينها فلا يمكنُ حسبَ زعمهم، أن يكونَ لها نفسُ القبولِ، ويقولون أيضًا: إن القرآنَ مُجمعٌ على صحته، بينما الأحاديثُ فيها اختلافٌ كثير.
إنها يا عباد الله شنشة أخزم المعروفة، وهي في نفس الوقت تحقيقٌ لمعجزة من معجزات المصطفى صلى الله عليه وسلم، تجدَّدُ بين الفينة والأخرى، فقد صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((لألفَينَّ أحدكم متكئًا على مُتكَئِه يصلُ إليه عنِّي حديثٌ فيقولُ: لا نجدُ هذا الحُكمَ في القرآنِ. ألا وإنِّي أوتيتُ القرآنَ ومثلَهُ معهُ))، وفي رواية صحيحة: ((ألا إنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللَّهِ مثلُ ما حرَّمَ اللَّهُ)). وللأسف الشديد يا عباد الله، وكما ذكرت سابقًا، فإنَّ لكلِّ ساقطةٍ لاقطة، ولكلِّ ناعقٍ لاعق؛ ولذلك وجبَ التبيينُ والتنبيه، ليتعلَّمَ الجاهل، ويتنبهَ الغافل، ويتميَّزَ الحقُّ من الباطل، و﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42]، فلقد أخبرنا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ خبرَ هؤلاء الشِّقاقِيين، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]، ومعنى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ﴾؛ أي: إنهُ مع علمهِ بهدي الرسولِ صلى الله عليه وسلم لكنهُ اختارَ أن يكونَ هو في شِقٍّ, والرسولُ صلى الله عليه وسلم في شقٍّ آخر، فيسلُك ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فيكون هو في طريقٍ، والمؤمنونَ الذين أطاعوا الرسولَ صلى الله عليه وسلم واتبعوا هديهُ في طريقٍ آخر، فما هو جزاؤه: ﴿ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]، هذا هو جزاءُ ومصيرُ من يُشاققِ الرسولَ, وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فهؤلاء لَيْسُوا بِقُرْآنِيِّينَ؛ فأهلُ القرآنِ يعظمونَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم ولا يشاقُّونه، وإنما هم شِقاقيون يردون أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ويشاقُّونه، فهم شِقاقِيون لا قرآنيون، وإذا كان حملةُ القرآن وحفظته، هم بذاتهم حملةُ السنةِ وحفظتُها، فإنَّ الطعنَ في السنة الشريفة وحملتِها طعنٌ في القرآنِ الكريم وحملتهِ.
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه: (أمَّا هؤلاء فجاءوا بداهيةٍ كبرى, ومنكرٍ عظيم, وبلاءٍ كبير، ومصيبةٍ عظمى, حيث قالوا: إن السنةَ برمتها لا يُحتجُّ بها، وطعنوا فيها وفي رواتها وفي كتبها).. إلى أن قال رحمه الله: (وقد كذَّبوا وجهِلوا ما قام به علماءُ السنة، ولو أنهم عمِلوا بالقرآن لعظَّموا السنةَ وأخذوا بها، ولكنهم جهِلوا ما دلَّ عليه كتابُ اللهِ وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم فضلوا وأضلوا)؛ انتهي كلامه رحمه الله.
ثمَّ إنَّ العجبَ لا ينتهي من هؤلاء التاركين للسنة وأحاديثها، المكتفينَ بالقرآن زعموا، فبأيِّ فهمٍ فهِموا، وبأيِّ فريةٍ أتوا، وكيف يمكنهم بدون السنة وأحاديثها، أن يعرفوا تفاصيل الأحكام والعبادات، فمعظمُ ما جَاءَ في القُرْآنِ الكريم إنما هو شَعَائِرُ مُجْمَلَةٌ، وأحكامٌ عامة، لا يُعرفُ تفصِيلُها إلا عن طريقِ السُّنَّةِ وأحادِيثها، وَلَوْلَا حِفْظُ اللهِ تعالى لها لَمَا طُبِّقَتْ آيَاتُ القُرْآنِ العَظِيمِ التطبيقَ الصحيح، الموافقَ لمراد اللهِ جلَّ وعلا، فإذا قال الله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، فالربا له صورٌ كثيرة، وبدون السنة سيقعُ المسلمُ في إحداها وهو لا يعلم، وإذا قال الله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]، فما هي أعدادُ الصلوات؟ وما هي أوقاتها؟ وكم عدد ركعاتها؟ وما هي كيفيتُها؟ وما هي شروطها وأركانها؟ وما سننها وواجباتها؟ وما هي الزكاة؟ ما نصابها؟ وما هو مقدارها؟ وما هي أحكامها؟ وهكذا الحجُّ وهكذا الجهاد، وهكذا الزواج والطلاق، والبيعُ والشراء، وعقودُ التجارة والإجارة، والشراكة والمعاوضة والمضاربة، وسائر العبادات والمعاملات, والمصالح العامة والخاصة، كلُّ ذلك لا يمكن معرفةُ مرادِ اللِه فيه, إلا عن طريقِ سنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يقتدوا به في أفعاله وأقواله، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]؛ وذلك لأنَّ التأسي به صلى الله عليه وسلم هو التطبيقُ الفعلي لأحكام الإسلام وعقائدهِ وعباداتهِ ومعاملاتهِ وآدابهِ وتوجيهاته، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، يطبقُ مرادَ اللهِ وحكمه، ويأمرُ المسلمين أن يفعلوا كفعله، ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، ((خذوا عني مناسككم)) ((عليكم بسنتي))، وقد نقل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أقوالَ النبي صلى الله عليه وسلم وأفعالهُ وسنته إلى مَنْ بعدهم، ونقلها أولئك إلى من بعدهم، ثم تمَّ تدوينها في الدواوين والكتب، وحين يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54]، فكيف تكون طاعةُ الرسول صلى الله عليه وسلم بدون اتِّباعِ سنته؟ وكيف يكون اتباعُ سنتهِ بدون تعلُّمِها؟ وكيف يكونُ تعلُّمُها بدون حفظِها وتدوينها؟ وحين يقول الحقُّ سبحانه وبحمده: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، فكَيْفَ سنَأْخُذُ مَا أَمَرَنَا بِهِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وَنَتْرُكُ مَا نَهَانَا عَنْهُ، إلا بحْفَظِ وتدوين السُّنَّةِ المُطَهَّرَة ودراستها وتعلُّمِها؟ وماذا سيَفعَلُ الشِّقاقِيونَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، فهم عندما ينكرون السنة ويردونها بحجة أنهُ قد دُسَّ فيها أحاديث موضوعة، يعلمونَ كما يعلم غيرُهم من الأعداء، أنهُ ليس هناك أمةٌ اهتمت بتنقيح الأخبارِ وتمييزِ صحيحها من ضعيفها كهذه الأمَّةِ، وأنَّ جهابذة الحديثِ وعلماءه قد أسَّسوا نظامًا عجيبًا خاصًّا بهم, لا تملِكُ أيُّ أمَّةٍ أخرى نظامًا مثله, ولا حتى قريبًا منه؛ ألا وهو عِلمُ مصطلحِ الحديث، وعلمُ الجرحِ والتَّعديل، وهي علومٌ تخصُّصِيةٌ رفيعةُ المستوى، شديدةُ الدِّقةِ، الغرضُ منها تتبُّعُ الأسانيدِ والرويات، والحُكمُ عليها صِحةً وضعفًا، وقبولًا وردًّا، حتى إنهُ ليستحيلُ استحالةً قطعيةً أن يدخُلَ في الأحاديث الصحيحة ما ليس منها، كما يعلم هؤلاء الشِّقاقِيون أكثرَ من غيرهم، أنهُ يستحيلُ لمن أرادَ تطبيقَ الشريعةِ الإسلاميةِ على مرادِ اللهِ تعالى أن يكتفي بالقرآن وحدهُ دونَ أخذِ التفاصيلِ من الأحاديثِ الصحيحةِ، وأنَّ من اكتفى بالقرآن وحدهُ فسيضطر لتفسير أحكامهِ العامةِ على هواه ومراده، وهذا هو السببُ الحقيقي لرواج هذا التوجهِ الخبيث، وإذا عُرفَ السببُ بطُلَ العجب، فأغلبُ أحكامِ المرأةِ كالمحرم والولي والوصايةِ وكذلك المعازفُ والغناءُ ليست في القرآن الكريم، وإنما في السنة فقط، وصدق الله: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون: 71]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].أقول ما تسمعون..
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه…
معاشر المؤمنين الكرام، قال العارفون، وصدقوا فيما قالوا: “من لا شعبانَ له, فلا رمضانَ له”، وهذا شيءٌ طبيعي ومنطقي؛ فإنَّ الرياضيينَ مثلًا يحرصونَ على ما يُعرفُ بالإحماء والتَّسخين، وهو أن يُهيئ الرياضيُّ جسدَهُ بشيءٍ من التمارين الخفيفة، قبل أن يندمجَ في رياضته كليًّا، والسببُ الذي لا يخفى هو أنهُ لو ابتدأ بالمجهود الشاقِّ مُباشرة, فقد يُصابُ ويتعطل؛ بل إنَّ الآلاتِ والسيارات تحتاجُ في بدايةِ عملها إلى التهيئة والتسخين.
وهكذا فشهرُ شعبانَ هو فترةُ إحماءٍ وتهيئةٍ لأعظم مواسمِ المؤمنِ وأغلاها وأنفسها؛ أعني رمضان، والذي يتطلبُ من المسلم أن يبذلَ فيه قُصارى جُهده، استثمارًا لكل لحظةٍ من لحظاته، فلو دخلَ موسمُ رمضانَ على المسلم بلا تهيئةٍ، واستعد لأن يبذلَ فيه جُهدًا كبيرًا، فلربما كان ذلك شاقًّا وصادمًا؛ وهذا ما يُلاحظُ على كثيرٍ من الحريصينَ الذين يبدأونَ رمضانَ بنشاطٍ ظاهرٍ ثم يأخذون في التقهقر، فيفرطون تفريطًا كبيرًا, ويحرمون أنفسهم خيرًا عظيمًا، وتفوتهم نفحاتٌ إلهيةٌ مباركة، وأجورٌ مضاعفةٌ هائلة, لا تدخلُ تحت عدٍّ ولا حصر، فرمضانُ شهرُ الصبر، و﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
لذا فقد اقتضت حكمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ ورحمته، أن يجعلَ شعبانَ مُقدمةً وتمهيدًا وتهيئةً لدخول رمضان؛ ولذا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثرُ من الصيامِ في شعبان، ففي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: ((ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)) كما أنَّ شعبانَ يا عباد الله، فرصةٌ عظيمةٌ للتوبة الصادقة، وتصفيةِ القلوب من كدر الذنوب، وتجديدُ العهد مع علّام الغيوب، ففي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله ليطلعُ في ليلة النصفِ من شعبان فيغفرُ لجميع خلقهِ إلا لمشركٍ أو مُشاحِن))، فهي فرصةٌ عظيمةٌ للتوبة الصادقة، وتجديدُ العهد مع الله تعالى، وإصلاحِ ما فسدَ من العلاقات, مع الزملاء والقرابات، وأن يدخلَ المسلمُ إلى أعظم المواسمِ وهو طاهرُ القلب، صافي النفس، خفيفُ الروح، مشتاق إلى طاعة اللهِ وعبادته، والأُنس بذكره ومناجاته، مستروح لنسائِمِ القربِ والقبول.
وهكذا أحبَّتي في الله، يكونُ المجتهدُ في هذا الشهرِ قد حازَ فضيلتين: حُسنَ الاستعدادِ لرمضان، والعبادةَ زمنَ الغفلةِ، وهكذا يا عباد الله، فمن لا شعبانَ لهُ فلا رمضانَ له؛ لأنَّ من أحسنَ في شعبان فحريٌّ به أن يُحسنَ في رمضان، ومن قصَّرَ في شعبان فيُخشى عليه مواصلةُ التقصير في رمضان. جعلني الله وإياكم من المحسنين، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أعزَّ الإسلام وأصلح أحوال المسلمين.