معنى النسخ عن السلف والخطأ في فهمه
– معنى النسخ عن السلف والخطأ في فهمه – د.فهد بن مبارك بن عبد الله الوهبي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ..
فإنه من المهم العناية بمعرفة مصطلحات السلف ، ليكون طالب العلم عارفاً بمقصودهم وحتى لا يقع في محاكمة كلامهم على اصطلاح حادث بعدهم ، ومن تلك المصطلحات التي وقع فيها الخطأ في فهم كلام السلف مصطلح النسخ ، فأحب هنا أن أذكر معناه عندهم مع التمثيل لذلك اسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح..
النسخ في اصطلاح المتقدمين معناه: البيان.
فيشمل تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتبيين المجمل، ورفع الحكم بجملته وهو ما يعرف ـ عند المتأخرين ـ بالنسخ (1).
وسبب إطلاقهم النسخ عليها:
أنها تشترك في أن جزءاً من تلك النصوص لم يكن معمولاً به؛ فأشبهت النسخ من جهة كون الحكم فيه غير معمول به.
وإيضاح ذلك:
أن النسخ عُلم فيه أن النص الأول لم يكن مطلوباً ولا معمولاً به، وهذا المعنى جارٍ في تقييد الطلق؛ فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمول به هو المقيد، فصار مثل الناسخ، وصار المطلق مثل المنسوخ.
وكذلك العام مع الخاص إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ، وأشبه العام المنسوخ، إلا أن لفظ العام لم يُهمل جملة واحدة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص.
وكذلك المجمل متروك العمل به إلا بعد البيان، فأشبه المنسوخ من جهة تركه، وأشبه البيان الناسخ من جهة العمل به (2 ).
قال ابن القيم: ” قلت: ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ: رفع الحكم بجملته تارة ـ وهو اصطلاح المتأخرين ـ ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد، أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخاً لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد.
فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو: بيان المراد بغير ذلك اللفظ بل بأمر خارجٍ عنه ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يُحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر “(3 ).
وقال الشاطبي ( ت: 790 هـ ): ” وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين: فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخاً، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخاً، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخاً، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخاً”(4 ).
وأشار إلى هذا المعنى بعض علماء علوم القرآن والمفسرين:
قال السخاوي ( ت: 643 هـ ): ” فإن قولنا: نسخٌ وتخصيصٌ واستثناءٌ؛ اصطلاحٌ وقع بعد ابن عباس، وكان ابن عباس يسمي ذلك نسخاً “(5 ).
وقال: ” وإنما وقع الغلط للمتأخرين من قبل عدم المعرفة بمراد المتقدمين، فإنهم كانوا يطلقون على الأحوال المتنقلة النسخ، والمتأخرون يريدون بالنسخ نزول النص ثانياً رافعاً لحكم النص الأول “(6 ).
وقال: ” وهذا مما يوضح ما قلته من أنهم كانوا يُطلقون النسخ على غير ما نطلقه نحن عليه… فلا تغتر بقولهم: منسوخ؛ فإنهم لا يريدون به ما تريد أنت بالنسخ”(7 ).
وقال القرطبي ( ت: 671 هـ ): ” والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخاً توسعاً وتجوزاً “(8 ).
وقال الزركشي ( ت: 794 هـ ): ” وما فيه من ناسخ ومنسوخ فمعلوم وهو قليل… وأما غير ذلك فمن تحقق علماً بالنسخ عَلِم أن غالب ذلك من المنسأ، ومنه ما يرجع لبيان الحكم المجمل… وكل ما في القرآن مما يدعى نسخه بالسنة عند من يراه فهو بيان لحكم القرآن… وأما بالقرآن ـ على ما ظنه كثير من المفسرين ـ فليس بنسخ، وإنما هو نسأ وتأخير، أو مجمل أُخِّر بيانه لوقت الحاجة، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب غيره، أو مخصوص من عموم، أو حكم عام لخاص، أو لمداخلة معنى في معنى، وأنواع الخطاب كثيرة فظنوا ذلك نسخاً وليس به “(9 ).
وقال ابن عقيلة المكي ( ت: 1150 هـ ) عن التخصيص والبيان: ” أقول: تسمية هذا النوع نسخاً تجوزاً، إذ النسخ رفع الحكم الأول، وهذا تخصيص وبيان في آيات الاستثناء المذكورة، وإنما سمي نسخاً: لكونه رفعاً لعموم الحكم، وإلا فليس هو من النسخ الحقيقي. وكل ما هو من هذا النوع فليس من قبيل الناسخ والمنسوخ. وسيأتيك في السور التالية، وقد سماه كثير من العلماء ناسخاً ومنسوخاً، فذكرناه لتتميم الفائدة”(10 ).
ويمكن التمثيل لإطلاق السلف النسخَ على هذه الأنواع بما يلي:
أولاً: إطلاقهم النسخ على تخصيص العام:
مثاله: ما جاء عن ابن عباس قال: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً [غير بيوتكم حتى تستأنسوا) النور: 27 ] الآية ثم نَسَخَ واستثنى من ذلك: ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم ) [ النور: 29 ] (11 ).
قال ابن الجوزي ( ت: 597 هـ ): ” وهذا تخصيص لا نسخ “( 12).
ثانياً: إطلاقهم النسخ على تقييد المطلق:
مثاله: ما روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ) [ الإسراء: 18 ] أنه ناسخٌ لقوله تعالى: ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها ) [ الشورى: 20 ].
قال الشاطبي: ” وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق؛ إذ كان قوله: ( نؤته منها ) مطلقاً ومعناه مقيد بالمشيئة، وهو قوله تعالى: ( لمن نريد ) وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ”(13 ).
ثالثاً: إطلاقهم النسخ على تبيين المبهم:
مثاله: ما جاء عن ابن عباس في قوله تعالى: ( قل الأنفال لله والرسول ) [ الأنفال: 1 ]، أنه منسوخ بقوله تعالى: ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) [ الأنفال: 41 ].
وإنما ذلك بيانٌ لمبهم في قوله تعالى: ( لله والرسول ) [ الأنفال: 1 ] (14).
رابعاً: إطلاقهم النسخ على تبيين المجمل وتفسيره:
ومثاله: ما جاء عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله : ( لله ما في السماوات والأرض وإن تيدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) [البقرة: 284 ] قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله ، فأتوا رسول الله ، ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسولَ الله، كُلِّفْنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله : ” أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير “. قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلَّتْ بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله : ﭽ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال: نعم، ( ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ) قال: نعم، ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال: نعم، ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) قال: نعم( 15).
قال الشاطبي: ” ذلك من باب تخصيص العموم، أو بيان المجمل “( 16).
خامساً: إطلاقهم النسخ على المُنسأ وهو ما تُرك العمل به مؤقتاً لانتقال العلة:
ومثاله: من قال بنسخ جميع الآيات الآمرة بالعفو أو الصفح أو الإعراض عن المشركين والكفار، بالآيات الآمرة بقتالهم أو بأخذ الجزية منهم.
قال قتادة: ” كلُّ شيءٍ في القرآن فأعرض عنهم وانتظر منسوخٌ، نسخته براءة والقتال”(17 ).
قال الزركشي في بيان هذا الإطلاق: ” ما أمر به لسبب ثم يزول السبب؛ كالأمر ـ حين الضعف والقلة ـ بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله، ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسءٌ، كما قال تعالى: ( أو ننسئها ) فالمنسأ هو الأمر بالقتال، إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.
وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليستْ كذلك بل هي من المنسَأ، بمعنى: أن كل أمرٍ وَرَدَ؛ يجب امتثاله في وقتٍ ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبداً “(18 ).
سادساً: إطلاق النسخ على نقل حكم الإباحة الأصلية:
وقع في بعض كلام السلف إطلاق اسم النسخ على تغيير الإباحة الأصلية إلى حكمٍ جديدٍ بالنص:
مثاله: ما وقع في شأن تحريم الخمر، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) [ النساء: 43 ] و ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) [ البقرة: 219 ] نسختهما التي في المائدة: ( إنما الخمر والميسر ) [ المائدة:90].
قال السخاوي بعد نقله كلام مكي(19 ) في نسخها: ” قوله(20): إنها ناسخة لما كان مباحاً من شرب الخمر؛ يلزم منه: أن الله أنزل إباحتها ثم نسخ ذلك. ومتى أحل الله شرب الخمر ؟!، وإنما كان مسكوتاً عنهم في شربها، جارون في ذلك على عادتهم ثم نزل التحريم، كما سكت عنهم في غيرها من المحرمات إلى وقت التحريم، وهذه الآية وما ذكر من الآيات الكلُّ في التحريم كما جاء تحريم الميتة في غير آية “( 21).
وقال ابن العربي: ” وأما الذي كانت العرب تفعله … فليس من النسخ في شيء لأنه لم يكن حُكماً أحكم ، ولا شرعاً ، ولا ديناً مهد ، وإنما كان باطلاً يُفعل، وحقاً يُجهل؛ فقذف الله بالحق على الباطل فدمغه، وأعلمَ الصحيحَ في ذلك وبلغه”( 22).
وقال : ” لأن فعل الجاهلية ليس بحكمٍ فيرفعه آخر، وإنما هو كله باطل فنسخ الله الباطلَ بالحق”(23 ).
قال السيوطي ( ت: 911 هـ ) في هذا وما قبله: ” والذي أقوله: إن الذي أورده المكثرون أقسام:
قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص، ولا له بهما علاقةٌ بوجه من الوجوه…
وقسم هو من قسم المخصوص، لا من قسم المنسوخ، وقد اعتنى ابن العربي بتحريره فأجاد…
وقسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية أو شرائع من قبلنا، أو في أول الإسلام ولم ينزل في القرآن: كإبطال نكاحِ نساء الآباء، ومشروعيةِ القصاص والدية، وحصرِ الطلاق في الثلاث. وهذا إدخاله في الناسخ قريب، ولكن عدم إدخاله أقرب، وهو الذي رجحه مكي وغيره( 24). ووجهوه: بأن ذلك لو عُدَّ في الناسخ لعُدَّ جميع القرآن منه، إذ كله أو أكثره رافعٌ لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب. قالوا: وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آيةٌ نسختْ آيةً… نعم، النوع الأخير منه، وهو رافع ما كان في أول الإسلام، إدخالُه أوجهُ من القسمين قبله “(25).
والله تعالى أعلم ..
12 / 10 / 1428هـ -د.فهد بن مبارك بن عبد الله الوهبي
ـــــــــــــــ
حواشي :
(1 ) انظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة للجيزاني: ( 254 )، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي:(68).
(2 ) انظر: الموافقات للشاطبي: ( 3 / 81 )، والآيات المنسوخة: ( 21 ).
(3 ) إعلام الموقعين.
(4 ) الموافقات: ( 3 / 81 ). وانظر منه أيضاً: ( 3 / 88 ).
(5 ) جمال القراء: ( 1 / 247 ).
(6 ) السابق: ( 1 / 394 ).
(7 ) السابق: ( 1 / 341 ـ 342 ).
(8 ) الجامع لأحكام القرآن: ( 2 / 71 ).
(9 ) البرهان: ( 2 / 44 ).
(10 ) الزيادة والإحسان: ( 5 / 298 ).
(11 ) رواه البخاري في الأدب المفرد رقم ( 1056 ) وابن الجوزي في نواسخ القرآن واللفظ له. وانظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس: ( 199 ).
(12 ) المصفى بأكف أهل الرسوخ: ( 45 ).
(13 ) الموافقات: ( 3 / 81 ـ 81 ).
(14 ) انظر: الموافقات: ( 3 / 83 ).
(15 ) رواه مسلم في: برقم ( 125 ).
(16 ) الموافقات: ( 3 / 85 ). وقال ابن حجر: ” ويحتمل أن يكون المراد بالنسخ… التخصيص كما هي عادة المتقدمين في إطلاق النسخ عليه كثيراً”. فتح الباري: ( 8 / 207 ).
(17 ) رواه ابن الجوزي في نواسخ القرآن: ( 427 ت )، وانظر هذا المعنى في الناسخ والمنسوخ لقتادة: ( 33، 40، 41، 42، 45، 47 ).
(18 ) البرهان: ( 2 / 42 ).
(19 ) الإيضاح: ( 166 ).
(20 ) أي مكي بن أبي طالب.
(21 ) جمال القراء: ( 1 / 259 ).
(22 ) الناسخ والمنسوخ : ( 2 / 55 ). وقد كان حديثه عن القصاص الذي كانت تفعله العرب، وقدم قبله أن ما كان عليه بنو إسرائيل من تعيين القصاص منسوخ بالتخيير بين القصاص أو الدية.
(23 ) الناسخ والمنسوخ : ( 2 / 84 ). وانظر : ( 2 / 87 ، 146 ) منه.
(24 ) انظر: الإيضاح لمكي: ( 107 ـ 108 ).
(25 ) الإتقان: ( 1 / 652 ـ 653 ) باختصار.