العبر في بعض قصار السور – لفضيلة الشيخ عائض القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل العلم ضياء و القران نورا، و رفع الذين أوتوا العلم درجات علية، و كان ذلك في الكتاب مسطورا ، و جعل العلماء ورثة الأنبياء ،و كفى بربك هاديا و نصيرا، نحمده تعالى حمدا كثيرا ، و نشكره عز و جل ، وهو القائل: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان:3) و أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، كما(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18) و أشهد أن سيدنا محمدا عبده و رسوله المرشد الحكيم، و المعلم العظيم ، بشر به المسيح و الكليم، و أستجيبت به دعوة إبراهيم: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة:129) اللهم صل و سلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة و منة، بخير كتاب و أفضل سنة، و القائل: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة)) صلى الله و سلم عليه و على اله و صحبه القائمين بالحق و الدعاة إليه بالألسنة و الأسنة ،و على التابعين لهم بإحسان في التعلم و التعليم، أما بعد:
فهذا كتاب: (( العبر في بعض قصار السور)) ، تناولت فيه بعضا من سور الجزء الثلاثين ، جز(( عم)) ، تناولا أدبيا موافقا لما عليه المفسرون من أهل السنة و الجماعة ، مجليا فيه عن بعض معاني هذا الكتاب الخالد، الذي شرفت الأمة بحمله ، و لن تفلح يوما بدونه، سائلا الرب تعالى أن يقبله مني قبولا حسنا ، و أن يعفو عن خطئي و تقصيري ، وهو سبحانه أكرم مسؤول و أجل مأمول، و صلى الله و سلم و بارك على سيدنا محمد و على اله و أصحابه أجمعين، و الحمد لله رب العالمي.
سورة الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم()وَالضُّحَى) (الضحى:1) هذا قسم من الله تعالي بالضحى و صفائه ، وحسنه و بهائه ، و روعته في سمائه، و جماله و استوائه. (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (الضحى:2) إذا أرخى سدوله و أستاره، و أخفى نوامه و سماره، إذا أطبق جناحيه على العالم، و غطى بجلبابه كل يقظان و نائم، إذا زحف بظلامه الكثيف، و أقبل بشخصه المنيف.( )مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) (الضحى:3) ما أبعدك بعد ما أدناك، و ما كرهك بعد ما أحبك و اصطفاك ، و ما هجرك بعد ما اختارك و اجتباك، فأنت إلينا حبيب ، و نحن منك قريب، خصصناك بالخلة، و غفرنا لك الزلة ، و نصرناك بعد الهزيمة، و أغنيناك بعد العيلة و القلة. (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (الضحى:5) و الله، لنكر من مثواك، و تالله، لنرفعن في الجنة مأواك، و نخصك بالوسيلة، و نتحفك بالدرجة *
فَآوَى) (الضحى:6) أما فقدت الأبوة و الأمومة ، و لم تجد الخؤولة و العمومة ، فاويناك في كنف الحنان ، و أدخلناك في ولاية الرحمن، لاحظناك بالرعاية، و حميناك بالولاية، حتى صرت للعالمين آية، اويناك إلى ركن لا يرام، و الى كنف لا يضام. (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) (الضحى7) كنت في الحيرة العمياء ، لا سنة و لا كتاب ، و لا هدى و لا صواب، فهديناك صراطا مستقيما، و ألهمناك دينا قويما، و أوحينا إليك ذكرا حكيما، و جعلناك للعالمين إماما كريما. فالهدى ما جئت به، و الحق ما أنت عليه، و الصواب ما قصدت إليه، الخير فيك، و اليمن معك، و البركة لك.( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) (الضحى:8) كنت من المال فقيرا، و عشت للجوع أسيرا، وولدت مع اليتم كسيرا، فرزقناك و حبوناك، حتى صرت تعطى عطاء من لا يخشى الفقر، و توزع الغنائم على البدو و الحضر، فصرت أجود بالخير من الريح المرسلة، و أصبحت بالبر من الغيوث المنزولة. (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) (الضحى:9) كما كنت يتيما فأرحم الأيتام ، فأنت نبي الرحمة من الملك العلام، لا تكسر قلب اليتيم ، و كن في مكان أبيه الرحيم، أمسح رأسه حنانا، و أمسح دمعته إحسانا ، أشبع جوعته امتنانا، أقل عثرته لطفا و عرفانا، و جئت لرفع الظلم و جبر القلوب المنكسرة، و نصرة المستضعفين في الأرض ، و إغاثة المنكوبين في العالم، و إسعاد المحرومين في الدنيا. (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (الضحى:10) لا ترد سؤال الفقير، و لا تكسر خاطر الضعيف الكسير، و لا تخيب المحتاج إذا قصدك، و لا ترفع صوتك على المسكين إذا استنجدك، أحمد ربك على أنك لست مكانه، لأن ربك منحك إحسانه. ()وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى:11) اعترف بالفضل لمن أسداه، و أنسب الجميل لمن هداه، أذع المعروف و لا تكن جحودا ن و أعلن البر لا تكن كنودا، حدث الخليقة بفعل الخالق، و أخبر البرية برزق الرازق، لا تكتم فتحرم، لا تنكر فتظلم، أنشر الثناء للمستحق جل في علاه، و أكثر الحمد لمن هو أهله لا اله إلا إياه، إذا ذكرتنا بالجميل فقد شكرتنا و إذا مدحتنا بالفضل فقد عرفتنا.
سورة الشرح
بسم الله الرحمن الرحيم
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1) أما شرحنا صدرك بالنور، ووسعناه بالرضا و السرور ، و عمرناه بالهدى و الحبور؟ أما أزلنا منه الحزن و الهموم، و أذهبنا منه الضيق و الغموم، و ملأناه بالسكينة و الأمن و العلوم، فامتلأ بحب الحي القيوم، و رضيت بالمقسوم؟(وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) (الشرح:2) غسلناك من الخطايا، و محونا عنك السيئات، و غفرنا لك الذنوب، و طهرناك تطهيرا، و غفرنا لك ذنبك، ما تقدم و ما تأخر، فعمدك و خطؤك مغفور، و عيبك مستور، و سعيك مبرور، و عملك مشكور، و كدك مأجور. (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (الشرح:3) أهمك حتى كاد يقصم ظهرك، و أغماك حتى أوشك أن يوهن جسمك ، فلما أزلنا عنك وزرك، أسترحت و سررت، و فرحت، فعشت قرير العين، هادي البال، مطمئن النفس، ساكن الفؤاد، منشرح الصدر، مشرق الوجه، عامر الروح. (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح:4) تذكر على المنائر، و تمدح معنا على المنابر، و تسطر معنا بالمحابر في الدفاتر، صيرنا ذكرك في المشرقين و المغربين، و نشرنا الثناء عليك في الخافقين، و بثثنا حبك في الثقلين. يذكرك معنا من دخل الإسلام، و من صلى و صام و طاف بالبيت الحرام. أسمك في لسان كل واحد ، و في فم كل متشهد و في كل روضة و مسجد، يبدأ بالصلاة و السلام عليك في أول الكلام، و في بداية كل طاعة، و الختام من صلى عليك عشرا كتبنا له أجرا، و محونا عنه وزرا.( )فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5) بعد كل كرب فرج، مع الدمعة بسمة، و مع الحزن سرور، و مع الجوع شبع، و مع الظمأ ري، و مع المرض عافية، و مع الفقر غنى. الليل يعقبه نهار، فجر اليأس يخلفه روح، الشدة يتلوها رخاء، إذا اشتد الحبل انقطع، و إذا ضاق الأمر اتسع ، و إذا وقع المكروه ارتفع.
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
العسر عسر واحد و اليسر يسران، و المغيث الملك الديان، و ولي التيسير الرحمن، الذي هو كل يوم في شأن، فسبحان الحنان المنان. (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:6) لا تيأس من الروح، لا تقنط من الفتوح، فان بابه مفتوح، و عطاءه ممنوح، و خيره يغدو و يروحن لا تسيء بنا الظن عند الكرب، و ناد: يا رب ير رب، فانا منك على قرب، لا تنقطع بك الآمال، و أكثر من السؤال فقد دعوناك النوال، و تبدل الحال، و كشف الكرب الثقال، لأنك تعامل ذو الجلال. سيهدي الضال، و يعافي المبتلى، و يشفي المريض، و يشبع الجائع، و يروى الظمآن، و يفك الأسير ، و يرتاح المهموم ، لأن مع العسر يسرا. و هذه بشرى لمن عاش الضيق و الضنك، و لابس الكرب، و عصفت به المصائب، و زلزلته النكبات، و أقضت مضجعه الحوادث، و دهمته الخطوب، فليذكر الجميع أن مع العسر يسرا. (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) (الشرح:7) إذا أنهيت أعمالك، و قضيت أشغالك، فاداب في عبادة مولاك، و اجتهد في طاعة خالقك، و منتهى نجواك،فالعبادة طريق السعادة، و الطاعة باب الرضا و الأمن و القناعة. فيا لها من خدمة توجب الرضوان، و يا له من عمل يستنزل رضى الرحمن، و تنال به مرتبة الإحسان. ( و إلى ربك فأرغب )(8 الشرح) وحد المقصود إليه، حقق التوكل عليهن أفرده بالسؤال، أعظم الرغبة إليه في النوال، إذا سألت فلا تسأل غيره، اذا رجوت فلا ترجو سواه. انطرح على عتبات ربوبيته، ألق نفسك على أبواب ألوهيته ، مد يديك إليه، أشك حالك إليه، عفر له جبينك، أخلص له دينك.
إليك و إلا لا تشد الركائب و منك و إلا فالمؤمل خائب
و فيك و إلا فالغرام مضيع و عنك و إلا فالمحدث كاذب
سورة التين
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (التين:1) قسم بشجرتين عظيمتين عجيبتين، جمعت الغذاء و الدواء، يحفظ ثمرهما من الصيف إلى الشتاء، و هاتان الشجرتان تدلان على عظمة من خلق، و حكمة من أبدع، و قدرة من أنشأ. فتبارك الله رب العالمين، و ما أجمل اسم الشجرتين في فاصلة الآية المنونة، و على جرس المقاطع.َ
(وَطُورِ سِينِينَ) (التين:2) جبل في سيناء شرفه الله بكلامه لموسى عليه السلام، فصار للجبل بهذا حظوة، و للمكان مكانة، و أصبح له بين الجبال منزلة، لعظمة ما جرى عليه، فأصبح المحل كريما لكرم أهله، و المنزل شريفا لشرف نازله. (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (التين:3) هو مكة البلد الحرام، حيث فيه الأمن على النفس من القتل، و على الدم من السفك، و على العرض من الانتهاك، و على المال من السلب، و على الروح من الهم و الغم: ( ومن دخله كان أمنا) فهذا البلد في أمن الله ن و فين حفظه و صونه و رعايته، يرد عنه كل باغ و يصد عنه كل معتد. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4) أنشأناه في أحسن صورة، و أبدعناه في أجمل هيكل، جسم متناسب، و أعضاء متناسقة ، و تركيب حسن، و صتع جميل، مع عقل مميز، و قامة بهية، و منظر زاهي، كل جارحة في موضع لائق، و كل عضو في محل مناسب ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)(النمل: من الآية88)_ (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (التين:5) أبدلنا شبابه بالشيخوخة، و قوته بالضعف، و صحته بالسقم، و فتوته بالهرم، بعد شرخ الشباب، و بهاء الفتوة، و عنفوان الصبا، يعود أحنى الظهر، أبيض الشعر، متجعد الوجه، مرتعش الأعضاء، مهتز القامة، ضئيل البنية، ضعيف الذاكرة، تتعاوده الأسقام، و تتعاوره الأمراض، حتى يمل الحياة، و يسأم العيش. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين:6) فهم الصفوة المختارة، و النخبة المجتباة، أحسن الناس عملا، و أصدقهم قولا، و أقومهم طريقا، و أخلصهم نية، و أجملهم سيرة، أمنوا ثم قرنوا القول بالعمل ، و أصلحوا الظاهر و الباطن، و عمروا بالعبادة الليل و النهار، و راقبوا الله في السر و العلن، و نصحوا لله في كل شأن. هؤلاء لهم أجر عظيم، و ثواب كريم، و فضل عميم، لا يمن هذا الأجر عليهم ، و لا يلحقهم بهذا النعيم تبعة، و لا يدر كهم منه أذى، و لا يصاحبه معه غصة، تكفل الله بثوابهم، و ضمن أجرهم، و أحسن عاقبتهم، و رفع منزلتهم، و غفر ذنوبهم. (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) (التين:7) ما هو الذي يحملك أيها الكافر على التكذيب بيوم القيامة، و ما أخبر به نبي الرحمة من وعد و وعيد، و ثواب و عقاب، و جنة و نار؟ أما قامت على ذلك البينات، أما دلت على صدقه الدلالات، أما صحت بوقوعه النبوءات ، و أتت بما يثبت ذلك الرسالات، فهل بعد هذا البيان من زيادة؟ و هل أبقى هذا البرهان من شك؟ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (التين:8) أحكم من قضى، و أعدل من فصل، و أصدق من قال، و أرحم من ملك، و أتقن من صنع، و احسن من خلق، يقضي فلا ظلم و لا هضم، يمضي فلا معقب و لا مستدرك، و يقدر فلا راد و لا دافع، و يدبر فلا أحسن و لا أجمل، و يبدع فلا أتقن و لا أكمل، بلى هو الحكم العدل البر الرحيم يقضي بالحق، يحكم بالعدل، يقول بالصدق، و يأمر بالبر
سورة العلق
بسم الله الرحمن الرحيم
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) ابتدئ قراءتك باسم ربك، ليبارك الله عملك، و يثبتك على عملك، فربك هو الخالق الذي تفرد بالخلق وحده، فهو المستحق للعبادة وحده، و هذا يتضمن توحيد الربوبية و الألوهية، و فيه إشارة لفضل العلم، و شرف منزلته، و فضل طلبه، و البحث على تعلمه، و أخذه من أهله القائمين به. و أفضل البدء : بسم الله في كل طاعة ، و أمر شريف. (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2) هذا الخالق العظيم أوجد هذا الإنسان السميع البصير من قطعة حقيرة من دم غليظ، هذا هو أصل الإنسان فلا يتكبر ، هذا هو أوله فلا يتجبر، لأنه لم يكن شيئا يذكر، فسبحان الذي قدر و دبر و صور. (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (العلق:3) حث و تأكيد على قراءة العلم الرشيد، مع الاستعانة و التوكل، و البدء باسم الله الذي لا يوازيه في الكرم كريم، فكل جود إنما هو من جوده، و كل بذل باذل فما هو إلا ذرة من موجوده، فسبحان من جمع المكارم في صفاته، و جل عن الشبيه و المثيل و النديد و الشريك و الكفؤ من مخلوقاته. (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (العلق:4) كل من خط بالقلم حرفا فالله علمه، و كل من رسم باليراع لفظا فالله ألهمه، و كل من سطر بكفيه سطرا فالله فهمه، فهو الذي علم كل كاتب أن يكتب بالة القلم الصامت كلاما يقرأ و يفهم، و فيه فضل الخط بالقلم، و السادات خدم القلم، فهو يقضي بخطه على السيوف، و يحرك الجيوش، و يفصل الركاب، و تقع به الولاية و العزل، و العطاء و المنع، و به تدار الدول و تحكم الملوك، و تؤلف العلماء. (عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:5) هذا الإنسان لم يكن يعلم شيئا فعلمه الله كل علم و فن و صناعة ، ألهمه كيف يفكر و يعمل و ينتج، بصره بمصالحه، كشف له أسرار حياته، أوضح له ما خفي عليه، بين له ما غاب عنه، فتح له أبواب المعرفة ووفقه لأسباب التعلم، و قرب له ما بعد، و سهل له ما صعب، و يسر له ما عسر. (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى) (العلق:6) إذا تجرد من التقوى طغى و بغى، و تمرد و عتى، فهو بلا دين مارد مهين، وهو بلا استقامة فاجر خوان، تجمح به نفسه، يغلبه هواه، يقوده طمعه، يرديه جشعه، يسوقه شيطانه، تتلفه نفسه الأمارة. ( أن رءاه استغنى) ( 7) إذا رأى نفسه استغنى بالمال بطر، و أشر، و أصر و استكبر، فتجده يختال بما أنعم الله عليه ، فيجحد النعمة ، و ينسى الفضلن و ينسب الخير لنفسه، و يمنع حق المال، و يتيه على العباد، و يعرض عن الطاعة، و يصد عن الهدى، الا من رحمه الله بتقوى،. (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق:8) المصير إلى العلي القدير ن النهاية الي، الله، الغاية و العافية عند من لا يعذب عذابه أحد و لا يوثق وثاقه أحدن هنالك يجازى من بغى و طغى ، و من تكبر و تجبر، هنالك يبعثر ما في القبور، و يحصل ما في الصدور، و يظهر المستور، و يبين أهل التقوى و أهل الفجور. (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى) (العلق:9) أنظر بعجب و أستغرب إلى هذا المارد الكذاب، الذي يصد عن هدى الله، بعد ما أعرض عن دين الله. يا له من سيء حقير، و من نذل شرير، أما كفاه أن يكفر حتى وقف لعباد الله ينهى و يأمر. (عَبْداً إِذَا صَلَّى) (العلق:10) هو محمد صلى الله عليه و سلم ، و ذكر بالعبودية، لأنها أشرف المنازل ،و أجل الصفات، و أحسن المناقب، و أجمل المدائح، و واجب هذا العبد، و كل عبد أن يصلي لله الملك الحق، فمن نهاه عن هذه الصلاة، فهو عدو لله لدود، وهو حسود كنود جحود. (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى) (العلق:11) أرأيت أن كان صلى الله عليه و سلم على هدى من ربه، و هذا هو الحق، فانه هو و من اتبعه على دين قويم، و صراط مستقيم، فلا هدى إلا ما جاء به، و لا حق إلا ما كان عليه، و لا صواب إلا في شريعته، و لا نور إلا في رسالته، و لا حياة إلا في دينهن و لا نجاة إلا بسنته،و لا سعادة إلا في موكبه. (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) (العلق:12) كل أوامره صلى الله عليه و سلم تقوى ن كل نصائحه هدى، كل وصاياه حكم و فوائد، لا يأمر إلا بخير، و لا ينهى إلا عن شر، و لا يقول إلا صدق، و لا يحكم إلا بحق، و لا يرد إلا باطل. (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (العلق:13) أرأيت هذا الناهي أن كان كاذبا مكذبا بالحقن قد تولى عن الرشد، أمثله يأمر بخير؟ أمثله ينهى عن شر؟ هل هو أهل أن ينصح غيره؟ هل هو في مكان التوجيه و النصح و الإرشاد؟ انه متهم في دينه، زائغ في رشده، ضال في سعيه، مأفون في عقله، مظلم في نهجهن مريض في رأيه. (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) (العلق:14) يكفي انه يرى فيحاسب، و يطلع فيعاقب، و هذا اعظم تهديد، و أشد وعيد إذا كان يرى ذو البطش الشديد ، و العذاب الأكيد، و يرى و كفى، يرى عمل الصالح فيثيبه، و كيد الكائد فيخزيه، و ظلم الظالم فيجازيه، فحسبك به ناصرا ووليا، أنه يرى جل في علاه.( كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) (العلق:15) قسما، لو لم يترك هذا الفاجر الكافر أفعاله السيئة، و أعماله القبيحة لنجرن بناصيته جرا، و هذا نهاية الإذلال، و غاية الإهانة، لأنه متكبر متجبر مناسب أن يصغر هكذا، و يذل علانية، فيجر كما تجر الدابة بناصيته، وهو موضوع عتوه و جبروته ، و كبره و غروره. (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) (العلق:16) ناصية لا تحتمل إلا الكذب و الزور،البهتان و الفجور، ناصية كلها معاص و ذنزب، و خطايا و عيوب ، ناصية هي رمز الخسة و النذالة، و محل الوقاحة و العدوان، ناصية ما سجدت لله، و لا تشرفت بالخضوع له، و حملت دينه، لا عرفت كتابه، و لا استوعبت هداه. (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) (العلق:17) إذا حل به العذاب، ووقع به النكال، فليدع أعوانه و أنصاره، أن كان صادقا أن له ناديا و أنصارا و محبوه، و هذا تحد لهذا الذليل، فأي قوة مع قوة الله، و أي حول أو طول مع حوله و طوله؟ و أي جنود مع جنود الله؟ أن هذا الفاجر أذل و أقل و أحقر من أن ينصر، فهو مغلوب مخذول مهزوم. (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) (العلق:18)أن دعا أعوانه في ناديه، دعونا ملائكة غلاظا شدادا، أ هل قوة و بطش، و قدرة و فتك، ليري من أضعف ناصرا و أقل عددا، هؤلاء الزبانية مهيؤون له و لأمثاله، منحهم الله القوة، و أعطاهم المنعة، و رزقهم القدرة، لا تطاق مقاومتهم ، و لا تستطاع مصاولتهم، لأنهم ملائكة و كفى، و جند من جنود الله و حسب. (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق:19) لا توافق هذا المخذول، لا تلتفت إليه، لا تسمع كلامه، لا تنصت لمقاله، بل أسجد و اقترب منا، و أعبدنا، سجود لنا عز لك ، خضوعك لنا شرف لك ، ذلك لنا رفعة لك، اقترب منا بالطاعة لنقترب منك بالمحبة و الرعاية، و النصرة و الولاية. أفضل طريق للقرب منا: السجود لنا و أجمل وسيلة لمحبتنا: عبادتنا. و أقترب لتكرم، ذل لتعز، اخضع لترفع
سورة القدر
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) أنا أنزلنا القران العظيم في ليلة عظيمة، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، فشرفت هذه الليلة بما حصل فيها من تنزيل كريم، و حدث عظيم، فهي ليلة ذات مجد منيف، و قدر شريف، لأن الوحي الذي هو حياة القلوب، و صلاح الشعوب ، و هداية الناس، و عمار الأرض، نزل في هذه الليلة فحق لها أن تشرف على كل الليالي، و تسمو على كل الأوقات. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (القدر:2) ما أعظمها، يا محمد، من ليلة، و ما أجلها من مناسبة، لقد حدث فيها تنزيل غير وجه العالم، و بعث الناس من جديد، و بدل من مسار التاريخ، و قام بسببها سوق الجنة و النار، و ارتفع بها علم الجهاد، و حصلت بها المقامات الجليلة من العبادة، و النصر و الفتح، و الهدى و النور و الهداية. (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:3) هي أفضل من ألف شهر من العبادة و العمل الصالح، ليس في الألف ليلة قدر، ليلة واحدة، لكنها ببركتها و خيرها و شرفها و قدرها أجل عند الله من ألف شهر، و أعظم في ميزان الحسنات من سعي ألف شهر، و أبرك في العبادة و القبول من ألف شهر، و الله يختار من الأوقات و المناسبات و الأمكنة و الملائكة و الناس، فيفضله على حنسه، و يشرفه علة نوعه، و يصطفيه على شكله،( وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ )(البقرة: من الآية105).
و أن تفق الأنام و أنت منهم
فان المسك بعض دم الغزال
(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4) هي ليلة يكثر فيها هبوط الملائكة، يتنزلون بالرحمات والبركات ، و النفحات و الفتوحات من رب الأرض و السموات، يحملون معهم أوامر الهية، و أقدار ربانية من الهداية و الرزق، و الفتح التوبة و القبول، ففيها تصلح أحوال ، و ترفع أعمال، و تكتب أجال، و يجاب سؤال، فيها أحداث عظام، و قضايا جسام، يهبط بها الملائكة الكرام من الملك العلام، و جبريل مع هؤلاء الملائكة، و خص بالتعريف لزيادة التشريف، فهو روح القدس، و أمين وحي السماء إلى الصادق الأمين محمد صلى الله عليه و سلم، فهو في هذا الليلة يتنزل لمهمات عظيمات، شرفه الله بحملها و القيان بها، (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر:5) هي ليلة سلام، و أمن و أمان، و رحمة و رضى و قبول، و فوز و سعادة و فلاح، تسلم الملائكة فيها على العباد الصالحين ، و الأولياء المفلحين، و هي سلام، لا شر فيها، و لا غضب، و لا سخط، بل هي موسم لعتق الرقاب، و قبول توبة من تاب، و رد من أخطأ إلى الصواب، و فيها قبول الأعمال، و إصلاح الأحوال، و نزول البركة، و عموم الرحمة، و إتحاف العاملين، و ثواب الصالحين، و الستر على المسيئين، و كشف الكربات، و تسهيل الصعوبات، و فيها عافية و شفاء، و يسر و صفاء، و طمأنينة و سكينة
سورة البينة
بسم الله الرحمن الرحيم
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (البينة:1) الكفار: من يهود و نصارى، و مشركين و وثنيين ، لا يزالون على حالهم في الكفر، و على إصرارهم على الشرك، فهم في جهالة جهلاء، و في عماية و شقاء، و حيرة و اعراض و التواء، حتى تأتيهم بينة من الله، كالشمس في رابعة النهار، بينة لا لبس فيها و لا اختلاف، بينة صادقة، و حجة واضحة، و دليل ساطع، و برهان قاطع. (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً) (البينة:2) هذه البينة هو: محمد صلى الله عليه و سلم، النبي العظيم، و الحديث العجيب، و الفرقان بين أولياء الرحمن و أولياء الشيطان، الفاصل بين الحق و الباطل، صاحب الحجة، رسول المحجة، نبي الرحمة، إمام الهدى، المعصوم من الزيغ، المحفوظ من الغي، جاء يتلو صحفا من الله ، ظاهرة من كل ما يشين، مكرمة من كل دنس، مصونة من كل لبس، مشتملة على كل خير، حاوية على كل صلاح، لا كذب فيها و لا بهت، و لا زور فيها و لا فية. (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (البينة:3) فيها أحكام مكتوبة ، و قضايا مسطرة، و نصائح معبرة، و مواعظ مؤثرة ، فيها أمور ثمينة، و مسائل نفيسة، و صحة في الخبر، صدق في القول، صلاح في العلم، و عدل في الحكم، سعادة في الحال، نجاة في العاقبة، أمان من الزيغ، عصمة من الغواية، ضمان من الشقاء، قداسة و طهر، حق و رشد، خير و بر، فلاح و نجاح. (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (البينة:4) ما أختلف أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم محمد صلى الله عليه و سلم بغيا و حسدا، عرفوا أنه حق فأنكروه، علموا أنه صدق فكذبوه، تيقنوا أنه رسول فعصوه، قرأوا صفاته في كتبهم، و عرفوا علاماته في صحفهم، فلما جاءهم ة قد وافق الخبر الخبر، و الاسم المسمى و الصفة الموصوف، جاهروا بالتكذيب، و لجوا في الإعراض، و استمروا في الغواية، و أمعنوا في الكيد و الأذى، و المحاربة و الخصام. (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ )(البينة: من الآية5) هذه هي دعوة الرسل، و مهمة الأنبياء: أن يعبد الله وحده، لا اله إلا هو، و ما لنا من اله غيرهن و لا رب سواهن و هذه دعوة الحق، ة أصل الأصول، و رأس الأمر، و أهم القضايا، فلا يشرك مع الله في ألوهيته أحد، كما أنه واحد في ربوبيته و أسمائه و صفاته تعالى. ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(البينة: من الآية5) فلا يقبل الله عمل مشرك، و لا عبادة مرائي، لأنه أغنى الأغنياء عن الشرك، يريد أن يعبد وحده، و يسأل وحده، و يستعان بع وحده، فهو أولى من عبد، و أحق من شكرن و أعظم من ذكر، فله الدين الخالص من كل شائبة، و النقي من كل شرك، و الطاهر من كل رياء، السليم من كل نفاق. ( حُنَفَاءَ)(البينة: من الآية5)على ملة إبراهيم الخليل، عليه السلام، مستقيمين على التوحيد، مائلين عن الشرك، معرضين عن الوثنية، قائمين على العهد، حافظين للميثاق، مراعين لحدود الله ، صادقين مع ربهم، متبعين لرسولهم، منابذين لعدوهم. ( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ)(البينة: من الآية5) لا يصلون فحسب، بل يقيمون الصلاة إقامة ترصي الله ، و توافق السنة، و تنهي عن الفحشاء و المنكر، صلاة يعمر بها القلب ، و تحفظ بها الجوارح، و ترد بها المعاصي، و تصلح بها الأخلاق. ( وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ )(البينة: من الآية5) يزكون أرواحهم بالتوحيد، و أموالهم بالصدقة المفروضة، فيطهرون الباطن بتزكيته من كل خبيث، و تنقيته من كل رجس، و يزكون الظاهر بخالص الإيمان، و مراسيم السنة، و فضائل الأخلاق، ثن يعبدون الله فيما رزقهم من أموال، فيخرجون حق الله في أموالهم، ليزكيها و ينميها و يباركها. ( وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(البينة: من الآية5) هذه هي الملة القويمة، و الصراط المستقيم، و المنهج السديد، و المذهب الحق، فهو دين رضيه الله لعباده، و دعت إليه رسله، و أتت به كتبه، و سار عليه أولياؤه، يثيب الله من سلكه، و يعاقب من تركه. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)(البينة: من الآية6)ذكر أعمالهم، ثم ذكر جزاءهم ، بين أفعالهم، ثم عقب مصيرهم، عقابهم النار خالدين مؤبدين فيها، لا يخرجون منها، و لا يغاثون فيها، و لا يخفف عنهم من عذابها، لان عملهم القبيح لا جزاء له إلا النار، فقد فعلوا أشنع فعل، و أخبث صنيع، و أسوأ سعي كفر بالله، صد عن منهجه، تكذيب برسله، محاربة لأوليائه، فماذا بقي من السوء و القبح بعد هذا؟ فما جزاءهم إلا النار مخلدين فيها جزاء وفاقا. ( أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)(البينة: من الآية6) شر البرية هذه صفته، و أسأ الخليقة هذه علامته، وهو: الكفر بالله، فمن فعل ذلك فهو عدو الله، و أشأم عباده، و أقبح خلقه، ولو علا نسبه، و عظم حسبه، و كثر ماله، و قوي سلطانه، الميزان عند الرحمن، إيمان أو كفر، فمؤمن تقي و كافر شقي، صالح أو طالح، مصدق أو مكذب، مهتد أو ضال لا غير.(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة:7) هؤلاء هو صفوة الناس، و خير البشر، و أفضل الخلقية، و هم من آمن فأتبع القول العمل، فصلح اعتقاده، و حسن قوله، و جمل فعله، و طاب خلقه، و زكى سعيه. فمن آمن و عمل صالحا فهو الكريم من الناس، مهما كان نسبه و مهما كان حسبه، قل ماله أو كثر، صفت دنياه أو كدرت، العبرة إيمان و عمل صالحن لا أسر، و لا قبائل، لا شارات، لا ألقاب ، لا مناصب، لا أوسمة، إيمان صادق و عمل صالح، و أنت من خير خلق الله أن فعلت، ثم لا يضرك ما فاتك بعدها أبدا. (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)(البينة: من الآية8) ما أحسن المثوى، ما أجمل العاقبة، ما أجل المصير: خلود لا موت فيه، غنى لا فقر بعده، صحة لا سقم معها، سرور لا حزن يكدرهن صفاء لا غم يشوبه، قرة عين، راحة قلب، سكينة نفس، نعيم جسم، جوار رب، مقعد صدق، محل تكريم، منزل نعيم، قصر مشيد، نور مطرد، زهرة باهية، ثمرة يانعة، ماء عذب، عسل مصفى، لبن سائغ، خمر لا لغو فيه و لا تأثيم، نضرة و حبور، و نظر إلى وجه الغفور الشكور، و رضوان منه أكبر، و سلام من الملائكة محبر، و أمن من كل مخوف، و سلامة من كل منغص. ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )(البينة: من الآية8) أي عبارة توفي هذا المقام حقه؟ أي لفظ يعطي الموقف قدره؟ أي جملة تعبر عن هذا الكلام ؟ أن أحسن ما يفعله الإنسان عند هذا الرضوان: أن يسمع و ينصت، و يتدبر و يتفكر فحسب. ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ )(البينة: من الآية8) يا له من ثواب، و يا لها من هبة عظمى، رضى منه سبحانه عليهم، فلا يغضب عليهم أبدان و لا يسخط عليهم سرمدا، و هل المطلب الأسمى إلا رضاه؟ و هل المقصد الأجل إلا أن يرضى الله؟ فإذا رضي عليك فأنت القريب الحبيب، تصبح برضاه غنيا بلا مال، قويا بلا جند، مهابا بلا سلطان، منصورا بلا عشيرة، شريفا بلا نسب، كريما بلا جاه، لأنه رضي عنك فحسب، إذا رضي عليك فلا تأسف على ولد يموت، و لا على مال يفوت، و لا على زوجة تذهب، و لا دار تخرب، و لا ملك يضيع، و لا قصر يهدم، إذا رضي عليك فلا تبكي من أرتحل من الأحباب، و لا تأسف لمن فارق من الأصحاب، و لا تندم على من هجرك من البشر، أو قلاك من الأصدقاء، أو تنكر لك من الناس.
فليتك تحلو و الحياة مريرة و ليتك ترضى و الأنام غضاب
و ليت الذي بيني و بينك عامر و بيني و بين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين و كل الذي فوق التراب تراب
( وَرَضُوا عَنْهُ)(البينة: من الآية8)و كيف لا يرضون عنه، تقدست أسماؤه، وهو الذي خلق و رزق، و هدى و اجتبى، و أعطى و أسدى، و فقهم للعمل الصالح، و ختم لهم بخير، ثم أكرمهم، و أتحفهم، و أولاهم و أعطاهم، و كفاهم و وقاهم، شرح بالنعيم صدورهم، و أرضى بالإكرام نفوسهم، رفع منازلهم، و أعلى درجاتهم، فكيف لا يرضون غاية الرضى عن الغفور الشكور، الحميد الودود؟ و ما أحسن المقابلة، رضى برضى، و قبول بقبول، و حب بحب، وود بود، و إحسان بإحسان، و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان, ( ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ((البينة: من الآية8) هذا الفوز لمن خشي ربه، هذا الفلاح لمن خاف مولاه، هذا جزاء من راقب الله ، و حفظ حدوده، و انتهى عن نواهيه، و عظم حرماته، و أكرم شعائره، و سعى لنيل رضوانه، وعمل للفوز بثوابه، و إحسانه. و من خشي ربه عمل المأمور و ترك المحذور، و صبر على المقدور، و من خشي ربه صار قلبه شاكرا، و لسانه ذاكرا، و جسمه صابرا، و من خشي ربه صار صمته فكرة، و نظره عبرة، و فعله قربة.
سورة الزلزلة
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) (الزلزلة:1) يا له من حدث هائل، يوم تترك الأرض بمن عليها، تهتز اهتزازا، تضطرب اضطرابا، تتحرك كلها تسير جبالها، و تنسف نسفا، تفجر بحارها، و تسجر تسجيرا، يا الله، ما لها ترتج هذه الرجة المذهلة؟ يا الله، ما لها تتزلزل هذه الزلزلة الشديدة؟ ماذا دهاها؟ ماذا حل بها؟ كانت ساكنة قارة هادئة، فأي حديث ألم بها، و أي خطب حل بها؟ إنها تتحرك لقيام الساعة، و انتهاء العالم، و نهاية التاريخ، و دنو الحساب، و انقضاء الأجل المحتوم، و نفاد الزمن، و إقبال الآخرة. (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) (الزلزلة:2) أخرجت موتاها، و أظهرت كنوزها من بطنها، إلى ظهرها، كل شئ مكشوف باد ظاهر، لأن هذا وقت ظهور الأسرار ، و كشف الأستار، و إعلان المخبوء، و إذاعة المكتوم، و إحقاق الحق، و إزهاق الباطل. القبور تبعثر ليخرج من بها من البشر منذ أن خلقت الأرض، يخرج الأنبياء و الرسل، و الصديقون و الشهداء، و الصالحون و الأولياء، و الأكاسرة و القياصرة، و الملوك و الرؤساء، و الوزراء و الأمراء، و الأثرياء و الفقراء، كلهم يتوجه إلى صعيد واحد، و إلى رب واحد، يحمل كل واحد عمله، و ملف أخباره، و سيرته، و حسناته و سيئاته، كل مشغول بنفسه، مهتم بمصيره، كلهم ينادي، نفسي نفسي. (وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا) (الزلزلة:3) يندهش الإنسان من زلزلة الأرض، و ينذهل من حركتها و إطرابها، و يتساءل ما لها و ماذا جرى لها، ما لها، و هي الفراش الوثير، و المهاد القار،تلقي حمولتها، و تخرج ما في بطنها، و تعصف بمن عليها، ما ندري ما سر هذا التغير، و خبر هذا التبدل؟(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) (الزلزلة:4) تخبر بما عمل عليها، من خير و شر، تكشف أسرارها، تخرج مكنونها، تعلن عما حصل على ظهرها،من صغير و كبير، فهي أمينة فيما تنقل، صادقة فيما تقول، ثبته فيما تروي، و هذا وقت المحاسبة و المكاشفة و المصارحة و الإذاعة. تتحدث الأرض بما رأت و شاهدت و أحست. تتحدث عن الدماء المسفوكة، و الأعراض المنتهكة، و الأموال المسلوبة، و القيم المهدرة، تتحدث عن الظلم الصارخ، و الاستبداد الفاضح، و الجبروت الجاثم. تتحدث عن عدوان الإنسان على الإنسان، و طغيان البشر على البشر، و فتك العباد بعضهم ببعض. تتحدث عن الدموع المسفوعة، و الدماء المسفوكة، و الجلود المضروبة، و الرؤوس المقطوعة، و الأملاك المنهوبة، و الموبقات المتراكمة، و الفواحش المجتمعة. تتحدث أيضا عن صلاح الصالحين، و طاعة الأولياء، و عبادة الأبرار، و جهاد المجاهدين، تتحدث عن السجود الخاشع، و الصلاة المطمئنة، و الصدقة المتقبلة، و الموعظة النافعة، و الخلق الحسن، و السيرة الحميدة، و المثل السامية، و المناقب الفاضلة، تتحدث عن دموع الأولياء، و دماء الشهداء ، و تسبيح المتهجدين، و نصب الحجاج و المعتمرين، و جوع الصائمين، و معاناة الصابرين. (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (الزلزلة:5) سبب اضطراب الأرض و حركتها و تحدثها عن أخبارها، لأن الله أمرها بذلك فهي سامعة مطيعة لأمر الولي القهار، جل في علاه، و ما كان لها أن تتزلزل لو لا أن الله أمرها بذلك، و ليس لها أن تتحدث لو لا أن الله أمرها بذلك، فهي مقهورة لله، مؤتمرة بأمره، منفذة لتعاليمه، مذعنة لسلطانه، فيا لهذا الملك ما أجله، يا لهذا السلطان ما أعزه، و يا لهذه العظمة ما أفخمها. (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) (الزلزلة:6) ينصرف الناس من موقف الحساب، و من العرض الأكبر متفرقين يمنة و يسرة، فريق في الجنة و فريق في السعير، أهل يمين و شمال، سعداء و أشقياء، منعمين و معذبين، ينصرفون ليلقى كل جزاءه، المعلوم، و مصيره المحتوم، و ليجد ثمرة سعيه، و حصيلة كده، و حصاد عمره، أن خيرا فخير، و أن شرا فشر، كل يقطف ثمرة زرعه، حلوه و مره جزاء وفاقا، فلا ظلم و لا هضم. من أحسن وجد إحسانه، خلودا في النعيم، و أمنا و سلاما، و حبورا و سرورا. و من أساء وجد إساءته، خلودا في الجحيم، و نكالا و ذلة و مهانة، طعاما ذا غصة، و عذابا أليما. ليس هنالك إلا الأعمال: صالحها و سيئها، لا أنساب و لا أحساب، و لا ألقاب، و لا أموال، و لا أولاد، و لا مناصب، و لا أسرو لا قبائل، (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (النور:25) (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) من عمل في حياته زنة نملة صغيرة، أو ذرة من الهباء التي لا ترى بالعين الحقيرة، وجده في صحيفته، و حصل جزاءه عند ربه، هذا الخير القليل لا يضيع عند الله، عز و جل ، بل هو محفوظ عند من لا تضيع ودائعه، و لا تنتهي خزائنه، فلا يحقر العبد المعروف أن يفعله، و لا يزهد في الخير أن يعمله، فسوف يلقاه عند ربه، مثقال ذرة لا يضيع عند الله ، فيا له من حساب دقيق، و من عدل عظيم، و من إنصاف كريم. الكلمة الطيبة محفوظة لقائلها، البسمة المشرقة مكتوبة لصاحبها، جرعة الماء للظمآن، لقمة الخبز للجوعان، كلمة الرفق للهفان، دلالة الحيران، مواساة المنكوب، كلها و غيرها، و أصغر منها، و أكبر في صحيفة الأعمال، و في ديوان الحسنات. و في هذا: تنبيه وحث على إحسان العمل، و التزود من الخير، و جمع الحسنات، و المسابقة إلى الخيرات، و فعل الطاعات، و اقتناص فرص العمل النبيل. (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:8) فصاحب الشر لا يحتقر شره ، و فاعل السوء لا يقال سوءه، فهو أمامه يجده في صحيفته، ينتظره ليذوق عليه الجزاء، و ينال عليها العقاب،.
فيا مسرفا على نفسه، هذه ذرات تحسب و يا مكثر الذنوب هذه المحقرات تحفظ، حساب دقيق لا مجازفة فيه، فليس هنالك أهواء و لا تخرصات، و لا اجتهادات، إنما هناك حق و عدلن و كتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها، و ميزان لا يظلم مثقال ذرة. لا تحتقر الذنب فيكفي انه ذنبك، و احتقارك له عدم توقير للرب، و لا تتهاون بصغير المعصية و انظر من عصيت، فانه يغار و يغضب و يسخط، و يأخذ و ينتقم، جل في علاه.و هذه السورة كافية وافية شافية، و هي رسالة مستقلة لكل من يحترم عقله، و يخاف ربهن و يؤمن بالحساب و يرهب العذاب، يكفي أن تتدبر هذه السورة، و يعمل بها، فما أبلغها من سورة، و ما أجمعها من كلمات، و ما أشملها من عبارات، و بمثل هذا كان القران معجزا و بينا، و آسرا و أخاذا، و بليغا مفحما.
سورة الفيل
بسم الله الرحمن الرحيم
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) (الفيل:1) أما أخبروك عنا؟ ماذا فعلنا، جاء أبرهة ليهدم بيتنا فهدمنا كيانه، زلزلنا أركانه، و أهلكنا جنوده و أعوانه، جاؤوا في صحبة الفيل، فكان هو القائد الدليل، فوقف من خوف الجليل، و أما هم فأبوا إلا الاستكبار و الحقارة، فأمطرهم الله بالحجارة، و صب عليهم العذاب و الويل و الخسارة، فعادوا بأقبح حال و أخسر تجارة. (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) (الفيل:2) أما ردهم خائبين، أما قمعهم خاسرين، أما شرد كتائبهمـ أما سطر للعالمين مصائبهم؟ ها هم شذر مذذر، قد مزقت الحجارة جلودهم، و أبادت الطير جنودهم، فسبحان من نقض ما أبرموه، و ابطل ما دبروه، و حل ما عقدوه. (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ) (الفيل:3) لم ينزل عليهم ملائكة فهم اقل و أذل من ذلك، و لم يأخذهم بصيحة أو حاصب، أو ريح فليسوا في القوة هنالك، و إنما أرسل عليهم طيرا صغيرة الحجم، ضئيلة اللحم و العظم، ترشقهم بالنبال حتى جعلت أمرهم في سفال. (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (الفيل:4) جاءتهم حجارة من طين، تسحق الطاغين، و تمزق المارقين، كتب على كل حجر اسم صاحبه فلا يتركه حتى يصرعه، فسبحان من الهم هذه الطير السداد في الرمي و إصابة المرمى، و ما رمت الطيور يوم رمت، و لكن الله رمى، و لبيته حمى، و للمعتدي الموت و العمى. (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل:5) هلاك لهم تحقق فمزقهم كل ممزق، صارت عظة للمتعظين، و عبرة للمعتبرين، فها هم بعد الغارة أجزاء و اثر المعركة أشلاء، يلفهم الفناء و البيداء.
سورة الكوثر
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّا )(الكوثر: من الآية1) ما اجمل كلمة( أنا) هنا، ما احسن موقعها، ما اجل إيحاءها، و ما أعذب ايرادها هنا. (إِنَّا)(الكوثر: من الآية1) هكذا ضمير المتكلم تأتى أول السورة بلا مقدمات و لا تمهيد، فهي في موضعها اجمل من التاج على الراس، و من البسمة على الفم، و من الفجر على رؤوس الجبال، و لك ان تتصور اثر ضمير(إِنَّا ) الذي يعني: الله جل في علاه، يوم تأتى في زوال الكلام هكذا، و لا تدري ماذا سوف يأتي بعده. أقرا (إِنَّا)ثم اسكت قليلا لترى العظمة، فهو ضمير الجماعة، لكن عن الله الواحد القهار الجبار. (إِنَّا ) و تفكر في مدلولها، و ما وراءها، فإذا هي تحمل في طياتها هذا الاسم المحبب إلى القلوب المحبذ لدى الأرواح( الله) و(إِنَّا ) يقولها ملوك الأرض ليعظموا أنفسهم، فإذا قالوها انتظر رعاياهم و مواليهم ما بعدها، فاما تكريم يفوق الوصف، او عقوبة و نكال تتجاوز الحدود، لانهم لا يقولون(إِنَّا ) إلا إذا استجمعوا قواهم و كيانهم و هيبتهم، و هنا يقول الله عز و جل: (إِنَّا ) بصيغة الجمع تعظيما، و بلفظ الكل تفخيما، ليأتي بعدها عطاء مدرارا ، و فيض منهمر، و هية جسيمة، و نعمة عظيمة فوق ما يعطيه الملوك، و احسن ما يمنحه القادة، لان ما يعطونه هو ذرة من عطائه، و نقطة من بحر جوده و كرمه. و قال: ( إِنَّا ) لان ما يأتي بعدها يستحق الاحتفاء، و هذا يقع في كل أمر هام، ففي الخلق قال الله تعالي: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ )(الإنسان: من الآية2) . و في الرسالة قال: )( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ) ، و في الإحياء قال: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى ) و في العلم قال: ( إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)و نحو ذلك. و بدأ ب(إِنَّا) في أول الكلام، لأنها تشير لذاته المقدسة سبحانه، فهو الأول سبحانه فليس قبله شئ، ثم إنها أكسبت الكلام تشريفا فهو اعظم من : (أَعْطَيْنَاكَ) بدون (إِنَّا)أو ( لقد أعطيناك) فلما قال: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ) حصل الجمال اللفظي، و عظمة العطاء و الاحتفاء به صلى الله عليه و سلم ، (ا أَعْطَيْنَاكَ ) الخطاب لمحمد صلى الله عليه و سلم، و لكن أن تتذكر حاله وهو يستمع للعطية، و ينتظر الهبة من المعطي الكريم، جل في علاه، و هنا قال: (أَعْطَيْنَاكَ) و لم يقل:( أعطيتك) لان المقام مقام عطاء، و بذل و جود و كرم، فهو مقام عظيم، و موقف شريف مهيب، يستحق التعظيم و التبجيل، و لان العطية هائلة مباركة عامرة دائمة، تستحق الاحتفاء و الاهتمام، و لفت النظر و جلب الانتباه. ( أَعْطَيْنَاكَ) و لم يقل ( أتيناك) ، و العطاء شئ و الإيتاء شئ آخر، و قد ورد (ْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي )(الحجر: من الآية87) وورد: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)(الاسراء: من الآية2) وورد: (وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) (النساء:67) و غيرها من الايات، و لكن( أعطى) اعظم اثرا، و اوقع خبرا، لان العطاء يشمل المعاني و المحسوسات، عطاء الدنيا و الآخرة، البذل العاجل و الآجل، ما يصلح الروح ة الجسد، فصارت كلمة( أَعْطَيْنَاكَ) تملا المكان حضورا، و تفعم القلب نداوة، و تروق في الفم عذوبة، ثم أن العطاء من الله ، و ليس من البشر، فلذلك قصره بالضمير، (إِنَّا) و الفعل (أَعْطَيْنَاكَ ) فهذا العطاء من الله لا من البشر، من السماء لا من الأرض، من الجود و الغنى و السعة، لا من البخل و الفقر و الضيق. عطاء يباركه معطيه، و بتعاهده مسديه، و بثمره مبديه، عطاء ليس فيه منة البشر، و أذى المخلوق، و تبعة النفس اللوامة، جشع القلب الشحيح. و قال: ( أَعْطَيْنَاكَ ) و لم يقل: ( أعطيناكم) فالعطاء لمحمد صلى الله عليه و سلم تشريفا و تعريفا، فهو أمة في رجل، و تاريخ في إنسان، وهو أهل لان يعطى هذا العطاء بلا حدود، لانه عبد شكور، اختير بعناية، و اصطفى برعاية، و بعث برسالة، و نبىء بملة. فإذا أعطى وصلت بركة هذه العطية إلى أمته علما و حكمة، صلاحا و تقوى، شريعة و منهاجا، نصرا و فتحا. و لم يذكر العطية بالجمع فلم يقل: ( أعطيناكم) بل قال: ( أَعْطَيْنَاكَ ) ليحصل التفرد و التشريف، و الاختصاص، فالتفرد تفرد الله عز و جل بهذه العطية وحده، و التشريف له صلى الله عليه و سلم لان الله كرمه و اصطفاه، و الاختصاص، لان الله خصه بهذا من بين الناس. و للرسول صلى الله عليه و سلم أن يفرح بهذا العطاء المبارك من الله، و يعتز به عن كل مفقود، و يغنيه عن كل موجود إلا الواحد المعبود. هذا العطاء يسليه إذا ذهب أعداؤه بالحطام، و توزعوا الأموال كالأكوام، هذا العطاء يبرد غليله، و يشفي عليله، فإذا أعطى الناس الملك فعنده عطاء اعظم و اجل، و إذا كنزوا الكنوز، و عبؤوا القناطير المقنطرة فعنده هذا العطاء الدائم المبارك، و لذلك نجده صلى الله عليه و سلم اشرح الناس صدرا، وهو لا يملك من الدنيا درهما و لا دينارا، لان عنده عطاء آخر من عند مولاه، وهبة أخرى من عند ربه، جل في علاه، يقسم صلى الله عليه و سلم الأموال، و الإبل و البقر و الغنم، و الثياب و الطعام، على الناس فلا يأخذ منها درهما ، و لا ناقة و لا بقرة و لا شاة ، و لا ثوبا، و لا حبة و لا تمر، ثم هو سعيد مغتبط قرير العين، ساكن الفؤاد مطمئن النفس. و هذا العطاء من الله هو: الكوثر ، وهو نهر في الجنة، له صلى الله عليه و سلم،أو هو الخير الكثير الذي أعطيه، عليه الصلاة و السلام، و من هذا الخير الطيب المبارك، نهر الكوثر، و هنا يلحظ المؤمن بيعن بصيرته تفاهة الدنيا و حقارتها، و خستها و لؤمها، فهي ليست أهلا لان تكون عطية لمحمد صلى الله عليه و سلم، فقدره اشرف، و مكانته اطهر و اعظم، و منزلته أسمى و أنبل. و لم يقل: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ملكاَ) ، لان ملك الدنيا عطاء يزول، و حال يحول، و ظل منتقل، و مجد منقطع، و لكن)إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) لانه عطاء دائم مبارك متصل خالد سرمدي.ولو قال: (L أنا أعطيناك الملك) لم يتغير شئ، و لم تحصل مفاجأة، فها هم الملوك ملؤوا الأرض عربا و عجما، بيضا و سودا، و مسلمين و كافرين، و لو قال: ( أنا أعطيناك ملكا) لكان محمدا صلى الله عليه و سلم ضمن تلك القائمة الطويلة من ملوك اليمنو الجزيرة و العراق و فارس و الروم و الحبشة، فما هو الغريب إذا؟ و العجيب حقا، و الملفت للنظر صدقا، انه هذا العطاء من الله الذي اختص به محمدا صلى الله عليه و سلم و لم يشركه مع أحد من الناس في هذا العطاء، فهو التفرد من المعطي سبحانه الذي لا يشابهه في عطائه أحد، كما انه لا يشابهه في أفعاله و أسمائه و صفاته و ذاته أحد(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11) وهو التفرد للمعطى، وهو محمد صلى الله عليه و سلم الذي هو افضل من ملوك الأرض، بل لا يقارن به الملوك أبدا، فهو اجل و اعظم و اشرف.
دع سيف ذي يزن صفحا و مادحه
وتبعا و بني شداد في ارم
و لا تعرج على كسرى و دولته
و كل أصيد أو ذي هالة و كمي
وهو التفرد في العطية، لأنها ليست ملكا، و لا داران و لا قصرا، و لا ذهبا، و لا فضة، بل نعيم دائم، و مقام صدق عند مليك مقتدر، مع فتح و نصرهن و علم و عمل، و هدى و نور، و سرور و حبور. فإذا أعطيناك الكوثر، فلا تأسف على ما فاتك من هذه الدار،فقد أكرمناك عنها، و أنقذناك منها، و لا تحزن على ما لم تنله من متاع زائل، و عطاء قليل منغص. و قال: ( أَعْطَيْنَاكَ ) و لم يقل: ( نعطيك) أو ( سوف نعطيك) لتحقق العطية فكأنها وقعت لصدق المخبر جل في علاه، و لأنها واقعة لا محالة. و في سورة الضحى قال: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) لانه لم يخبر بالعطية فكان الأحسن عند وعده بها: أن لا تسمى لتبقى مبهمة لجلالتها و عظمتها، و لما سمى هنا العطية بالكوثر ذكرها بالماضي كأنها حصلت، وهو صفة النهر و لم يذكر الموصوف تفخما للعطية، كقولك: جاني العالم و الكريم، أي: الذي لا اعلم منه، و لا اكرم ، وهو ابلغ في اللغة من قولك: جاءني الرجل العالم و الرجل الكريم. و قد صح عنه، عليه الصلاة و السلام، انه قال: ( الكوثر نهر أعطيناه الله في الجنة، ترابه مسك، ابيض من اللبن، و أحلى من العسل، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر أكلها أطعم منها) و صح عنه، عليه السلام، قوله: ( الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، و مجراه على الدر و الياقوت، تربته أطيب من المسك و ماؤه أحلى من العسل، اشد بياضا من الثلج))و عرف الله الكوثر بأل، و لم يقل كوثرا، لان المعرفة ابلغ و اجل، فكان المعنى: أعطيناك الكوثر العظيم المتميز عن كل نهر. (فَصَلِّ لِرَبِّكَ ) ما دام أن العطاء من ربك وحده، لا من غيره، فاعبده وحده لا سواه، فلا اله إلا هو، صل لربك الذي أعطاك، فبالصلاة و العبادة و الذكر و الشكر يستمر العطاء و ينمو، و يزيد و يدوم(ْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ )، ( وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)و اعظم الشكر الصلاة (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) . و إنما ذكر الصلاة هنا وحدها، و سماها و خصها، لأنها عمود الإسلام، و اجل الطاعات بعد الشهادة، و هي الفارق بين المسلم و الكافر، وهو العهد بين عباد الله و أعداء الله، و هي أول ما يحاسب عليها العبد، أخر وصاياه صلى الله عليه و سلم من الدنيا. و قال هنا: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ)فذكر الربوبية، لان الماقم مقام عطاء، و نعمة و هبة، و الرب هو الذي يربي عباده بنعمه الجزيلة، و أياديه الجميلة، فحسن ذكر الرب هنا، و في ذكر الصلاة: إشارة إلى عبودية الله وحده التي هي متضمنة توحيد الألوهية، فاجتمع في قوله: (فَصَلِّ) توحيد الألوهية، و في قوله: ( لِرَبِّكَ ) توحيد الربوبية. و في الآية: إشارة إلى أن اعظم ما يفتح به على العبد من الفتوحات الدينية و الدنيوية إنما يكون بالصلاة، فزكريا بشر بيحى وهو قائم يصلي في المحراب، و كان صلى الله عليه و سلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، و إذا جاءه أمر يسره خر ساجدا لربه. فبالصلاة يحافظ على النعمة أن تفر، و يقيد الخبر بها أن تهرب، فهي حرز للنعم، و حصن مانع من النقم، يستجلب بها المزيد، و يستمطر بها الرزق، و يستدر بها العطاء. ( وَانْحَرْ) و قوله: (وَانْحَرْ) أمر يجعل الذبح و النحر لله، فلا يشرك فيه معه أحد، فان المشركين يذبحون لغير الله من الأوثان و الأصنام و الجن، فامر أهل الإيمان بصرف هذه العبادة لله وحجه، فالتقوى فيها قصد الله بها، و عدم إشراك سواه سبحانه(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) ، فالصلاة و النحر عبادة و نسك يجب صرفها لله وحده(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . و الصلاة و النحر صلة و قربى بين العبد و ربه، و عبادة بدنية و مالية يقصد بها الله وحده، و الصلاة نفع لازم للعبد، و النحر نفع متعدي فوجب الإخلاص في كل عبادة ليكون العبد مخلصا لله (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) ، و بعضهم قال: الصلاة هنا صلاة عيد الأضحى، و النحر هو نحر الهدي، و الأضحية بعد الصلاة، و الظاهر العموم، و هنا يظهر تميز أهل الإيمان عن أهل الأوثان، فان المشركين سجدوا للصنم و ذبحوا للوثن، فجاء الأمر هنا بالسجود للواحد المعبود، و النحر للملك الحق، و اعظم شرك فعله الوثنيون هو تمريغ الأنف للحجارة، و اسالة الدم للأنداد و الأضداد، و ارفع عمل للموحدين بعد التوحيد هو وضع الجبين على الطين لرب العالمين، و إسالة الدماء تقربا لرب الأرض و السماء. (إِنَّ شَانِئَكَ) و قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ ) هجوم أدبي كاسح و تهديد رباني ماحق ساحق لاعداء محمد صلى الله عليه و سلموا خصومه و مبغضيه، و هذا ذب عن شخصه الكريم، و دفاع عن مقامه العظيم، فإذا كان المدافع و المحامي و الناصر هو الله فيا لقرة عينه صلى الله عليه و سلم بهذا النصر و الدفاع و الولاية، و سانؤه صلى الله عليه و سلم لا يكون إلا كافرا و ماردا حقيرا خسيسا، لانه ما ابغضها لا بعدما أصابه الله بخذلان، و كتب عليه الخسران، و أراد له الهوان، و إلا فان إنسانا مثل الرسول صلى الله عليه و سلم يوجب النقل و العقل حبه، إذ لو كان الطهر جسدا لكان جسده صلى الله عليه و سلم، و لو كان النبل و السمو صورة لكان لصورته، بابي هو أمي، فهو منتهى الفضيلة، و غاية الخصال الجميلة، و المستحق للوسيلة، و صاحب الدرجة العالية الرفيعة الجليلة، فكان الواجب على من عنده ذرة رأي، و بصيص من نور، إذا كان يحترم عقله أن يحب هذا الإمام العظيم لما جمع الله فيه من فضائل، و لما حازه من مناقب، و لكن واحسرتاه على تلك العقول العفنة، و النفوس المندثرة بجلباب الخزي، القابعة على سراديب البغي، الراتعة في مراتع الرذيلة، كيف عادته مع كماله البشري، و مقامه السامي، فكأنه المقصود بقول الشاعر:
أعادي على ما يوجب للحب للفتى … و أهدا و الأفكار في تجول
و قال الآخر:
إذا محاسني اللائي أدل بها … أنت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
(َ هُوَ الْأَبْتَرُ) و قوله: (َ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي: مقطوع البركة و النفع و الأثر، فكل من عاداك لا خير فيه، و لا منفعة من ورائه، أما أنت فأنت المبارك أينما كنت، اليمن معك، السعادة موكبك، الرضا راحتك، البركة تحفك، السكينة تخشاك، الرحمة تتنزل عليك، الهدى حيثما كنت، النور أينما يممت، و أعداؤه صلى الله عليه و سلم قالوا عنه: انه ابتر، لا نسل له، و لا ولد، فجاء الجواب مرغما لتلك الأنوف، دافعا لتلك الرؤوس، محبطا لتلك النفوس. فكأنه يقول لهم: كيف يكون ابتر و قد اصلح الله على يديه الأمم، و هدى بنوره الشعوب، و اخرج برسالته الناس من الظلمات إلى النور؟ كيف يكون ابتر و العلم اشرق على أنواره، و الكون استيقظ على دعوته، و الدنيا استبشرت بقدومه؟!كيف يكون ابتر و المساجد تردد الوحي الذي جاء به، و الحديث الذي تكلم به، و المآذن تعلن مبادئه، و المنابر تذيع معاليمه، و الجامعات تدرس وثيقته الربانية! كيف يكون ابتر و الخلفاء الراشدون نهلوا من علمه، و الشهداء اقتبسوا من شجاعته، و العلماء شربوا من معين نبوته، و الأولياء استضاءوا بنور ولايته، كيف يكون ابتر و قد طبق ميراثه المعمورة، و هزت دعوته الأرض، و دخلت كلمته كل بيت؟ ! فذكره مرفوع، و فضله غير مدفوع، و وزره موضوع. كيف يكون ابتر و كلما قرا قاري كتاب الله فلمحمد صلى الله عليه و سلم مثل اجره، لانه هو الذي دله على الخير، و كلما صلى مصلي فله مثل اجر صلاته، لانه هو الذي علمنا الصلاة،: (( صلوا كما رأيتموني اصلي)) و كلما حج حاج فله صلى الله عليه و سلم مثل حجه، لانه الذي عرفنا تلك المناسك(( لتأخذوا مني مناسككم)) بل الابتر الذي عاداه و حاربه، و هجر سنته، و اعرض عن هداه. فهذا الذي قطع الله من الأرض بركته، و عطل نفعه، و اطفا نوره، و طبع على قلبه، و شتت شمله، و هتك ستره، فكلامه لغو من القول، و زور من الحديث، و علمه رجس مردود عليه، و أثره فاسد، و سعيه في تباب. و انظر لكل من ناصب هذا الرسول الأكرم صلى الله عليه و سلم العداء، أو اعرض عن شرعه أو شئ مما بعث به ، كيف يصيبه من الخذلان و المقت و السخط و الهوان بقدر إعراضه و محاربته و عداءه. فالملحد مقلوب الإرادة، مطموس البصيرة، مخذول تائه منبوذ، و المبتدع زائغ ضال منحرف، و الفاسق مظلم القلب في حجب المعصية، و في أقبية الانحراف. و لم أن ترى سموه صلى الله عليه و سلم و علو قدره، و من تبعه يوم ترى أهل السنة و حملة حديثه و آثاره، و هم في مجد خالد من الأثر الطيب، و الذكر الحسن، و الثناء العطر من حسن المصير، و جميل المنقلب، و طيب الإقامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ثم انظر للفلاسفة المعرضين عن السنة مع ما هم فيه من الشبه و القلق و الحيرة و الاضطراب و الندم و الأسف على تصرم العمر في الضياع، و ذهاب الزمن في اللغو، و شتات القلب في أودية الأوهام، فهذا الإمام المعصوم صلى الله عليه و سلم معه النجاة، و سنته سفينة نوح من ركب فيها نجا، و من تخلف عنها هلك، وهو الذي يدور معه الحق حيثما دار، و كلامه حجة على كل متكلم من البشر من بعده، و ليس لاحد من الناس حجة على كلامه، و كلنا راد و مردود عليه إلا هو صلى الله عليه و سلم ، لانه لا ينق عن الهوى، أن هو إلا وحي يوحى، زكى الله سمعه و بصره و قبله، و نفى عنه الضلال و حصنه من الغي، و سلمه من الهوى، و حماه من الزيغ، و صانه من الانحراف، و عصمه من الفتنة، فكل قلب لم يبصر نوره فهو قلب مغضوب عليه، و كل ارض لم تشرق عليها شمسه فهي ارض مشؤومة، فهو المعصوم من الخطا المبرا من العيب، السليم من الحيف، النقي من الدنس، المنزه عن موارد التهم، على قوله توزن الأقوال، و على فعله تقاس الأفعال، و على حاله تعرض الأحوال. و قد قصد الكفار بقولهم: انه ابتر، عليه الصلاة و السلام،انه لا ولد له فإذا مات انقطع عقبه،و الابتر عند العرب هو من لا نسل له، و لا عقب فرد الله عليهم و اخبر أن من ابغضه و عاداه هو الابتر حقيقة. و في هذه السورة ثلاثة آيات، فلأولى عن الله عز و جل و عطائه لرسوله صلى الله عليه و سلم. و الثانية للرسول صلى الله عليه و سلم و الواجب عليه في مقابلة هذا العطاء و هي الصلاة و النحر. ز الثالثة لاعدائه صلى الله عليه و سلم وهو البتر و القطع من الخير و البركة و النفع، فلأولى عطية له، و الثانية واجب عليه، و الثلاثة دفاع عنه. و في السورة: تكريم الله لرسوله صلى الله عليه و سلم و إثبات الكوثر له كما صحت به الأحاديث أيضا، و الدفاع عنه و جواز سب الكافر و شتمه و زجره ليرتدع. فصلى الله عليه و سلم تسليما كثيرا ما نطق لسان، و خفق جنان، و تنفس صباح، و عسعس ليل، و رمش جفن، و دمعت عين، و تجدد لقاء، و حل صفاء، و قام ضياء، و برق سناء، و هب هواء، و على اله و صحبه الكرام و البررة.
سورة النصر
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ) نصر الله هو: اعزاز اولياءه، و اذلال اعدائه، و احقاق الحق، و ازهاق الباطل. ( وَالْفَتْحُ) هو ما فتح الله لرسوله صلى الله عليه و سلم من القلوب، و البلاد، و المواهب، ففتح القلوب بالرسالة المنشورة، و البلاد بالجيوش المنصورة، و المواهب هي: العطايا المباركة المبرورة. (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً) لما هدى الله القلوب اقبل الناس لدينه جماعات كثيرة، و طوائف وفيرة، بعد نكوص و إعراض، لانهم عرفوا صدق الرسول صلى الله عليه و سلم و عظمة الرسل،و صحة الرسالة، و سمو المقصد، و سلامة الطريق، و حسن العاقبة. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) فهو الذي وفق لهذه العقبى الجميلة، و الذي سهل هذه الفتوحات الجليلة، فحق أن يذكر اسمه، و أن ينزه عن كل نقص، و يبرا من كل عيب، لانه مقدس عن الصغائر و النقائص، كامل في الذات و الصفات، حقه أن يحمد على ما وهب، و أسدى و سدد. ( وَاسْتَغْفِرْهُ) إذا كان الكمال لله وحده، و الحمد و المنة لله وحده، فاعلم انك عبد عرضة للتقصير، فاستغفر عن تقصيرك، و اعتذر إلى ربك، و أبرا من قوتك. ( إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) يغفر الذنوب، و يستر القبيح، و يمحو الزلة، و يتجاوز عن السيئة، و يقبل التوبة، فهو كثير الغفران، دائم الصفح و الإحسان، معروف بسعة الرحمة على الانسان.
سورة المسد
بسم الله الرحمن الرحيم
(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (:3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(5)) هذا هجوم ساحق ماحق على ابي لهب. و أبو لهب هو: عم محمد صلى الله عليه و سلم من النسب، لكن المسالة مسالة مبدا و إيمان و معتقد، أبو لهب هذا قطع أواصر القرابة بالفكر، و رابطة النسب بالإلحاد، و صلة المودة بالإعراض. أبو لهب: اسم في قائمة المنبوذين الخاسرين، لم ينفعه نسبه، لم يدافع عنه حسبه، لم تنقذه قرابته، لم يمنعه ماله، لم يذب عنه جاهه. (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) خسرت يداه الاثنتان، هلكت كفاه، و خابت يمينه و شماله،يداه حيث البخل و الإمساك، و الشح و الايذاء، هكذا بلا مقدمات، و لا ديباجة، و لا تعريف، و لا تدرج في الخطاب، بل دفع مباشر، و فتك سريع، و انتقام خاطف. (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) إعلان حرب ضروس على رجل تافه، زائغ الرشد، ضال البصيرة، شارد الإدراك. و هذه السورة نصيب لأبي لهب و امرأته، لا يشاركها أحد، تنزل على هذا البيت صاعقة ماحقة، لتزلزل أركانه، و تنسف كيانه، و هي دفاع عن صاحب الرسالة صلى الله عليه و سلم، و قد اوذي من عمه الجلف الجبار الجاهل، الذي لم يحفظ القرابة، و لم يرع النسب، و لم يصن ابسط حقوق المرؤة، انه القاطع الآثم المحارب، الذي وقف في وجه النور لئلا يصل إلى العيون، و وقف أما الفجر لبئلا يزحف على الظلام. انه رجل جهم المحيا، خاوي الضمير، عابس الوجه، صاخب الصوت، فاحش اللفظ، مقذع السباب،. فليس له إلا قذيفة تحمل اسمه، و تحطم مشاعره، و ترغم انفهن و تذله و تصغره، ليعرف قدره الضئيل الحقير، و هذه السورة قصيرة الفواصل، سريعة الاقاع، بائية، حيث القلقلة و الزلازلو الاخذ، فيه تلتهبو تضطرب و تتحرك غضب و فتك. (تَبَّتْ) فهي تتمواج من أول كلمة، و هي تعلن اسمه في أول سطر، و تذيع كنيته في أول ملة، ليعرف انه المقصود، و لتيسر هذه السورة من شوارد القوارع الخطابية، التي تبقى ابد الدهر لكل من هذا صنيعه، و لكل من هذا منهجه عبرة لمعتبر، و عظة لمتعظ، و خزي لكل مفتر آثم. (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) مال أبى لهب: زاده إلى النار. مال أبى لهب: سم يتجرعه، علقم يحتسيه، زقوم يلتقمه. مال أبى لهب لا بركة فيه، و لا نفع، لانه أداة للتخريب، و وسيلة للإيذاء، و الصد عن سبيل الله، مال ينصر به الحق،و لا يطعم به المساكين، و لا يقرى به الضيف، و لا يؤيد به الفضيلة. مال جمع لمحاربة الله و لرسوله صلى الله عليه و سلم، مال رصد للمعصية، فلا بارك الله فيه، و لا ثمره، و لا زكاه.
عسى ماله زاد الى النار حاضر … و مركب خزي للدمار سريع
فما كان إلا البخل و الشح و الخنا … يدبره نذل الطباع رقيع
و ماذا ينفع أبا لهب ماله، فلم يتصدق بصدقة، و لم يصطنع به معروفا، و لم يبن به مكرمة، و لم يشيد به فضيلة. و على هذا فقس كل مال حورب به الإسلام، و كل كسب عورض به الحق، فمصيره: الخسار و التباب و الخزي و العار. ( فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ) . أن المال الحرام لن يدفع عن صاحبه بل هو وقود له في جهنم. (سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ) اسمع جزاءه و جائزته، تأمل مرده و مصيره، انظر نهايته و خاتمته. إنها نار ذات لهب، لانه أبو لهب:
كتبت في رأسه بالسيف ملحمة من إسمه فغدا يدعى بلا نسب
عرفته بالدم القاني فلو قطرت دماؤه كتبت هذا أبو لهب
و الله، ليحترقن هذا الفاجر بلظى جهنم تضطرم عليه، تتلظى في جسده، تحرق كيانه، يذوق لظاها، يتقلب فيها، يتمرغ على لهبها و شظاياها. (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) و جاء دور شريكة الحياة، و المشاركة في محاربة الله و رسوله صلى الله عليه و سلم، جاء ذكرها هنا، لانها تميزت بالاذاء، و لم يذكر اسمها و نسبها فيه، مشهورة بحمالة الحطب فقط، انها تعرف فحسب بواضعة الشوك في طريق الرسول صلى الله عليه و سلم. و بؤسا لحمالة الحطب هذا المصير المأساوي. أن حمالة الحطب حاربت و أساءت و خانت. أن حمالة الحطب بذلت جهدها في الإساءة، و استفرغت قواها في الإيذاء. و كل امرأة تحارب الملة، و تستهزي بالدين، و تبغض الشريعة فهي حمالة الحطب. و كل امرأة تصد عن سبيل الله بفعلها، أو كلامها، أو قلمها أو علمها أو أدبها فهي حمالة الحطب.
حي التي هي أغلى منتهى طلبي يامضرب المثل الأسمى لدى العرب
هي العفاف و في افيائه نبغت حمالة الورد لا حمالة الحطب
و هنا لم يذكر كنيتها، و ذكر كنية زوجها أبو لهب، لان أبا لهب له مناسبة بنار ذات لهب، و هي ام جميل، و ليس لها من الجمال نصيب، فلم تذكر بام جميل، بل بحمالة الحطب.قال بعض المفسرين: معنى حمالة الحطب، أي: إنها تنقل النميمة، فكل امرأة نمامة مفسدة خائنة، فهي حمالة الحطب. و كل امرأة تتبرج و تتبهرج، و تخطف أضواء الفتنة و الإغراء، فهي حمالة الحطب. و كل امرأة تهيم في المسرح، و توزع الرذيلة، و تسلب الألباب، و تدوس القيم فهي حمالة الحطب.و كل امرأة تلغي الستر، و تحارب العفاف، و تهون الفاحشة، و تزرع الرجس فهي حمالة الحطب. و كل امرأة تقيم حفلات الغواية، لتفتن الخليقة، و تضل الجيل، و تفتك المشاعر، و تقتل الفضيلة فهي حمالة الحطب. حمالة الحطب قد تكون ممثلة سائبة فاتنة مغرية، خلعت جلباب التقى، و نزعت حجاب الصيانة، و خرجت عن تعاليم الإسلام. حمالة الحطب قد تكون مغنية مائسة، سافرة تفعل بصورتها في القلوب فعل السحر، و تميل بحركتها و رقصاتها عقول مشاهديها. حمالة الحطب قد تكون شاعرة كفارة بالمبدأ ، خاوية الضمير، عابثة الأخلاق و الأعراف، و قد تكون ممثلة مهرجة سخيفة، عقت بيتها، و عافت دينها، و تبران من شرفها، و هجرت قيمها. أن حمالة الحطب من النساء فعلت بالأمة ما لم تفعله الجيوش الغازية، و القنابل الحارقة، و الصواريخ العابرة. أن حمالة الحطب عرضت في المسرح هكذا كاسية عارية، فاتنة متبرجة متبهرجة، مائلة مميلة، فسلبت قلوب اللاهين، و اذهبت عقول الغافلين، فاضاعوا الصلاة، و اتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا، قدمت المراة لحما على وضم، فطاف بها ذئاب الشر، ينظرون و يتلذذون و يعشقون و يذوبون و يهيمون. خدريهم يا كوكب الشرق، اسقيهم بكاس الفتون و الإغراء، عذبي كل مهجة بهيام سال من مقلتيك في الأحشاء. (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) هذه هي حليتها في النار، هذا ذهبها و فضتها. و المرأة تهتم بالجمال، و تتظاهر بالحسن، و ترصع جيدها بالزاهي من الحلي، و المبهج من الزينة، فكان جزاء هذه المراة المحاربة الكافرة: ان يشد عنقها بحبل من مسد، يلتهب عليها نارا. يا له من طوق رهيب يشتعل نارا، و يقدح شرارا، و يذوب حرارة و انصهارا. هذا النكال ينتظر هذه المرأة الكافرة و مثيلاتها من كل مفلسة من القيم، صادة عن الخير محاربة للملة. أن على كل امرأة تحرص على روعة الحلي، و جمال المظهر، و جسن العرض: أن تتحلى بزينة الإيمان، و حلي العفاف، و لباس التقوى، ليحليها الله باجمل حلة، و ابهى زينة، و ابهج مظهر، و احسن نضرة في جنات النعيم.
حور حرائر ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام
حلى التقى زان الصدور بعفة و يصدهن عن الخنا الإسلام
عد الآن إلى مشهد حمالة الحطب في النار، و انظر لتلك الصورة البائسة القاتمة المزعجة، امرأة تعذب في النار، في عنقها حبل من النار، لا يفارقها تجرجره في النار، و تكتوي بلظاه، و تصطلي بسعاره جزاءا و فاقا لما فعلته بصاحب الرسالة من تربص و اذى و نكاية و ملاحقة. و هذا مصير ينتظر كل من فعلت فعلتها، و سارت مسيرتها في الغي و الضلال و الانحراف و العدوان. و سبب نزول السورة: أن الرسول صلى الله عليه و سلم جمع الناس فلما اجتمعوا قال: (( أيها الناس قولوا لا اله إلا الله تفلحوا)) فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا؟ فنزلت السورة. و الله ، لا يتب محمد صلى الله عليه و سلم أبدا، و لا يخسر مطلقا، بل هو المظفر سرمدا، المحفوظ دائما، المحفوف بالعناية، المحوط بالرعاية. لن يخسرن فهو رمز الصدق، علم البر، و تاج الصلاح، وهو الواصل إذا قطعت الرحم، و حافظ العهد إذا نقضت الذمم، و حامل الكل إذا كلت العزائم،و المعين على نوائب الحق اذا ادلهمت الخطوب، و مكسب المعدوم اذا شحت النفوس، و انكمشت الايدي عن البر، فوالله، لا يخزيه الله أبدا. و يا لها من عزة للرسول صلى الله عليه و سلم أن يتولى الله الدفاع عنه، و الذب عن شخصه الكريم. و السورة لم تذكر السبب و التفصيل، و كلام أبى لهب، و ما حدث، و ما صار، بل نزلت كالرعد على راس هذا الرعديد، تذله و تحقره و تصغره، و اول هذه الضربة القاتلة(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) و هكذا مثل البرق الخاطف، او السيل الزاحف، او الصاعقة المدمرة في لمح البصر، وومض العين، و رجفة القلب في بلاغة و إيجاز، و مخافة و قوة، لتشفي كل قلب جرحه هذا الآثم، و ترضي كل نفس آذاها هذا الفتان أبو لهب ما لهذا الكافر المعاند و أمثاله إلا الخطاب الناري، و اللهجة المرعبة، و الرد الحاسم، ليكشف زيفهم، و يظهر عوراتهم و يعرف مكرهم، و هذا الفرق بين الحوار الوديع الهادي، و بين الرد الحاسم الجازم، فالذي يحارب الحق على عمد، و يؤذي الصالحين بقصد، و يناصب الملة العداء بترصد و سابق إصرار، ليس له أن يدغدغ بكلام لين، يتالف بحديث معسول، و يشاجى بقول جميل، بل يمرغ تمريغا، و يمزق تمزيقا، ليبطل كيده، و ينسف فكره، و يعلم حاله.
إنما الحزم أن ترى النذل حزما بثبات أمضى من السيف حزما
أن من يأفك في المنهج، و يستهزي بالدين و يستهتر الحق، ليس لك أن تفاوضه بلطيف الجمل، و ندى الحديث، ليس لهذا المارد الا فتح النار على راسه، لتكسر شوكته، و يمرغ انفه، و الا فما فائدة البيان الشافي الكافي، و ما قيامة الفصاحة الناصعة الساطعة، و ما قدر الكلمة الأسرة النافذة إذا لم ينصر بها حق، و يرغم بها كفر، و يزهق بها باطل، نعم هنالك حوار هادي، و موعظة حسنة، و جدال بالتي هي احسن، لكن في موطنة و مكانه و مقامه:
فوضع الندى في موضع السيف في العلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
أما إذا وصل الحال إلى استكبار و اصرار، و تبجح و تمرد، فليس هنالك الا قوارع كبرق تهامة، و صواعق كسكرات الموت، ليبقى الحق مهاب الجانب، مقدس العتبات، و صون الحرمات محترم الكيان، نعم. لن يزرع الحق في الأرض إلا بدرة من الله حاصدة للباطل. و لن يشاد قصر فضيلة إلا بمعمل من الله يهدم أوكار الرذيلة. و لن يحفظ ميثاق الوحي و دستور الشرع إلا بكلمات خطابية تذهل كل مرضعة عما ارضعت، لتحطم بها انوف المردة، و تكسر بها جماجم الطغاة. أن من يرد شبهة الباطل بكلام متهافت ميتـ يزيد من قوة هذا الباطل و جماحه و هياجه، و لهذا كان البيان سحرا، و اللسان البليغ سلاحا فتاكا، و الكلمة النافذة قذيفة ماحقة، و لمثل هذا يمدح البيان، و تحبذ البلاغة، و يعشق الادب، و تبت يدا ابي لهب.
سورة الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) الوذ و التجي و احتمي برب الصبح الذي شق عموده، و رفع بالضياء جنوده، فهو خالق هذا الصباح المنير الذي يضيء الارض بسناه، و يعمر الكون بضياه، و الصباح اية من ايات الله، حيث الحياة تدب، و الضياء يشع، و النور يسري، و الاطيار تشدو، و الدواب تزحف، و الخلقية تسرح، و الأنعام تمرح، و الأفنان تندى، و النسيم يهب. (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) استجير به من شر الأشرار، و مكر الفجار، و كيد الكفار، و احتمي به المشرور و المكايد، و ألوذ به عند الحوادث و الكوارث، و أساله الحماية من شر كل شرير، و بغي كل باغ، و عدوان كل معتد، و مكيدة كل كائد من انسان و جان و حيوان. (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) وهو الليل إذا اقبل يحمل في طياته الدواهي، و تتأبط تحت جناحه الطوارق و الحوادث، فنلوذ من هوله إلى الله، و نستعيذ من شره بالله، فلن يطرق طارق إلا بإذنه، و لن يقع حادث إلا بعلمه. (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) و أعوذ بك من شر السواحر إذا نفثوا في خيوطهم، و مكروا مكرهم، و كادوا كيدهم، فهم يعطفون بسحرهم و يصرفون، يفرقون بين المرء و زوجه، و القريب و قريبه، و يفسدون القلوب، و يهدمون البيوت، فهم جند من جنود ابليس استخفهم فاطاعوه، و دعاهم فاتبعوه. (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) إذا اظهر حسده، و عمل بمقتضاه، و صار عدوا للنعمة، و نسي الله حينها يسعى في النيل من المحسود، لانه ازدرى نعمة المعبود، فهو في شغل شاغل من صاحبه النعمة حتى تزول، يصول و يجول، لينفذ طعمه، و يسدد سهمه، و ينفث سمه، و يحقق أمنيته، فالله الكافي منه، و الدافع له، الحسيب عليه.
سورة الناس
بسم الله الرحمن الرحيم
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) التجي و الوذ و احتمي بالرب القوي، و الملك الغني، فهو ولينا فنعم الولي، من الذي ساله فما اعطاه؟ و من الذي دعاه فما لباه؟ و من الذي طلبه فما حباه؟ نصرة كل مظلوم، و عون كل مضيوم، و عزة كل مهضوم. (مَلِكِ النَّاسِ) ملك الملوك بيده المقاليد، عنده مفاتيح الغيب، لديه تصريف الأمور، له كل شئ، إليه ترجع الأمور، منه يبدا الأمر و ينتهي، ملكه عام دائم قاهر، دنيا و أخرى، جنا و إنسا، مسلمين و كافرين. (إِلَهِ النَّاسِ) المستحق لعبادة العبيد، المنزه عن مشاركة الصنديد و النديد، المحبوب بالأيادي إلى العباد، المعروف بالإحسان لدى الحاضر و الباد، إليه تسكن القلوب، قابل توبة من يتوب، غافر الذنوب، علام الغيوب، محبوب بالصفات و الاسماء، و النعم و الالاء، و الجود و العطاء. (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) نعوذ بالله من شر الشيطان إذا وسوس، و الخبيث إذا هوجس، و المارد إذا لبس، لانه لا يأمر إلا بالشر، و لا يدعو إلا إلى ضر، فهو يحارب الخير و الإحسان و البر، يجثم على القلب فيغطيه، و يشير على الإنسان فيرده، و يراوغ العبد ليضله و يشقيه. (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) يثبطهم عن الطاعات، يقودهم إلى المحرمات، و يدعوهم إلى الموبقات، بضاعته الشرور، و سكناه الصدور، و زاده الغرور، و مركبه الفجور، و خطبته الكذب و الزور. (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) فللجن و الإنس شياطين، و في الفريقين طائفة من المارقين، فشياطين الجن مردة مختفون، و شياطين الإنس مجاهرون ظاهرون، و شيطان الجن يدفع بالدعاء و الازكار، و الاستعاذة بالملك القهار، و شيطان الانس يدفع بالتوكل على الجليل، و الصبر الجميل، و الدفع بالحسنى، و الاخذ بالفعل الاسنى.
و الله اعلم ، و صلى الله و سلم و بارك على سيدنا محمد و على اله و أصحابه أجمعين، و الحمد لله رب العالمين
الشيخ عائض القرني