كلمات في فقه الصحابة
كلمات في فقه الصحابة رضي الله عنهم
الشيخ حسن بن علي البار
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}.
أما بعد، فإن خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة.
أما بعد، فمن أصول أهل السنة والجماعة: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله والاقتداء بهم.
لقد كان الصحابة (رضي الله عنهم) خيرَ قرون هذه الأمة وأفضلَها؛ كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم…)).
وقد ألمحت آيات القرآن إلى هذا المعنى في غير ما موضع… ففي الفاتحة تسأل ربَّك أن يهديك صراط الذين أنعم عليهم، وأن يجعلك مقتفياً لآثارهم. وأثنى الله سبحانه على قوم جاؤوا من بعد الصحابة يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
قال عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): من كان مُستنّاً فليَستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كانوا والله أفضلَ هذه الأمة، وأبرَّها قلوباً، وأعمقَها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً، قومٌ اختارهم اللهُ لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله تعالى) معلِّقاً على هذا الأثر: وقول عبدالله بن مسعود: كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقَها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً= كلامٌ جامع؛ بيَّن فيه (حُسن مَقْصِدِهم ونياتِهم)= ببرِّ القلوب، وبيَّن فيه (كمالَ المعرفة ودقَّتَها)= بعمق العلم، وبيّن فيه (تيسيرَ ذلك عليهم وامتناعَهم من القول بلا علم)= بقلة التكلف.
وقال بعضهم للحسن البصري (رحمه الله): أخبِرنا صفةَ أصحابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبكى الحسنُ ثم قال: ظهرت منهم علاماتُ الخير في السيماءِ والسمتِ والهديِ والصدق، و[في] خشونةِ ملابسهم بالاقتصاد، و[في] ممشاهُم بالتواضع، و[في] منطقِهِم بالعمل، و[في] مطعَمِهِم ومشربِهم بالطيِّب من الرزق، و[في] خضوعِهِم بالطاعة لربهم واستقادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، و[في] إعطائِهم الحق من أنفسهم. ظَمِئَتْ هواجرُهم، ونحِلَت أجسامُهم، واستَخَفُّوا بِسَخَط المخلوقين في رضى الخالق، لم يُفرطوا في غضب ولم يحيفوا. ولم يجاوزوا حكم الله في القرآن؛ شَغَلوا الألسُنَ بالذِّكر، بَذَلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم. ولم يمنعهم خوفهم من [الله من الإحسان إلى] المخلوقين؛ حسنت أخلاقهم، وهانت مؤنتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم.
أيها المسلمون، لقد أدرك سلفنا الصالح قدر الصحابة (رضي الله عنهم)، فقاموا بحقوقهم علماً وعملاً، اعتقاداً وسلوكاً، فهداهم الله (تعالى) إلى الصراط المستقيم، وخالف المبتدعةُ سبيل أهل السنة، فطعنوا في الصحابة (رضي الله عنهم)، وشتموهم، ومن ثم: فقد ضلوا ضلالاً بعيداً، وكلما زاد سبّ المبتدعة للصحابة (رضي الله عنهم): زادوا ضلالاً وغيّاً، كما هو ظاهر في طوائف السبابة وإخوانهم الباطنية، ويليهم في الضلال: الخوارج والمعتزلة. فلما كان عداء الخوارج والمعتزلة للصحابة دون عداء الباطنية، فإن ضلالهم أقل، وانحرافهم أدنى من الباطنية، وكان الأشاعرة قريبين من أهل السنة في باب الصحابة، ولذا: كانوا أقرب من غيرهم.
وكذا مَن لم يَسُبَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم ولكنه اتبع غير نهجهم، أو ظنَّ أنه يحصل له ولأشياخه من العلم والفهم والفطنة ما لم يحصِّله القوم فإنه يبتعد ويضل عن الصراط المستقيم بحسب بعده عن طرائقهم رضي الله عنهم.
فإن جئتَ إلى أبواب الاعتقاد، فقد كان الصحابة (رضي الله عنهم) على عقيدة واحدة، فهم خير القرون، قد تلقوا الدين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، ففهموا من مقاصده – صلى الله عليه وسلم-، وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم.
لقد تلقوا النصوص بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها أمراً واحداً، وأجروها على سَنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع، حين جعلوها عضين؛ فآمنوا ببعضها، وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين.
قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (رحمه الله): قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وَلَهُمْ على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسّر، وما دونهم مقصّر، لقد قصّر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
وأوصى الإمام الأوزاعي (رحمه الله) من سأله عن القَدَر بهذه الوصية: وأنا أوصيك بواحدة، فإنها تجلو الشك عنك، وتصيبَ بالاعتصام بها سبيل الرشد إن شاء الله (تعالى): تنظر إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الأمر؛ فإن كانوا اختلفوا فيه، فخذ بما وافقك من أقاويلهم، فإنك حينئذ منه في سعة، وإن كانوا اجتمعوا منه على أمر واحد لم يشذ عنه منهم أحد، فأين المذهب عنهم، فإن الهلكة في خلافهم، وإنهم لم يجتمعوا على شيء قط فكان الهدى في غيره، وقد أثنى الله (عز وجل) على أهل القدوة بهم فقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ…} [التوبة: 100] واحذر كل متأوِّل للقرآن على خلاف ما كانوا عليه…
وإن جئت إلى مسائل الفقه والحلال والحرام؛ فقد كان اجتهادُ الصحابة فيها أكملَ من اجتهادات مَن بعدَهم، وصوابُهم أكملَ من صواب المتأخرين، وخطؤُهم أخفَّ من خطأ المتأخرين، ولما حضر معاذ بن جبل الموتُ قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا. قال: أجلسوني. فقال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما (يقول ذلك ثلاث مرات). والتمسوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إنه عاشر عشرة في الجنة. رواه الترمذي.
ومن هذا الباب قال الإمام الشافعي (رحمه الله): هم فوقنا في كل علمٍ وفقهٍ ودينٍ وهدى، ورأيُهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا.
يقول ابن القيم معلِّقاً على كلمة الشافعي هذه: قد كان أحدهم يرى الرأي فينزلُ القرآنُ بموافقته… وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة: أن يكون رأيهم لنا خيراً من رأينا لأنفسنا، وكيف لا؟! وهو الرأي الصادر من قلوبٍ ممتلئةٍ نوراً وإيماناً وحكمةً وعلماً ومعرفةً وفهماً عن الله ورسوله ونصيحةً للأمة، وقلوبُهم على قلب نبيهم، ولا وساطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضّاً طريّاً لم يَشُبْه إشكال، ولم يَشُبْه خلاف.
وأما أبوابَ التعبدِ والسلوكِ والعملِ الصالح فقد كان الصحابةُ (رضي الله عنهم) أربابَ النسك الشرعي الكامل كما سبق وصفهم في مقالة الحسن البصري. يقول ابن تيمية: فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما ما جاء عمَّن بعدهم فلا ينبغي أن يُجعل أصلاً… فمن بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى.
أحبتي في الله، لقد خلّف الصحابةُ (رضي الله عنهم) ثروةً نفيسة من الأقوال المأثورة، والمواقف العملية المسطورة في سائر المجالات من: عقيدة، أو فقه، أو سلوك، أو دعوة… إلخ، وكم نحتاج إلى النظر في تلك الآثار، والانتفاع بها، خاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه ولله الحمد من يطالب بالأخذ بالكتاب والسنة.
ومن هنا تظهر أهمية متابعة منهج السلف الصالح، وأعلاهم وأولاهم بالاتباع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الرجوع إلى كلام الصحابة (رضي الله عنهم) في فهمهم للنصوص الشرعية من القواعد الجليلة والقضايا الكبيرة التي تحقق سلامة في المنهج، ونجاة من الشبهات والشهوات والضلال والغي.
وأسوق لك –يا عبد الله- جملة من أقوال الصحابة (رضي الله عنهم) وما تضمنته من المعاني المهمة والمسائل المفيدة، لعلها أن تكون باعثاً إلى الاستفادة من فقههم والانتفاع بعلومهم (رضي الله عنهم):
* يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لحقتُ بالله، لولا أن أسير في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب ساجداً، أو أجالس قوماً يلتقطون طيِّبَ الكلام كما يُلتقط طيب الثمر.
يقول ابن تيمية: وكلام عمر (رضي الله عنه) من أجمع الكلام وأكمله، فإنه ملهم محَدَّث، وكل كلمة من كلامه تجمع علماً كثيراً -مثل هؤلاء الثلاث التي ذكرهن-؛ فإنه ذكر الصلاة، والجهاد، والعلم، وهذه الثلاث هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة؛ قال أحمد بن حنبل: أفضل ما تطوَّع به الإنسان: الجهاد، وقال الشافعي: أفضل ما تطوع به: الصلاة، وقال أبو حنيفة ومالك: العلم.
والتحقيق أن كلاّ من الثلاثة لابد له من الآخَرَيْن، وقد يكون هذا أفضلُ في حال، وهذا أفضلُ في حال، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه يفعلون هذا وهذا وهذا، كلّ في موضعه بحسب الحاجة والمصلحة. وَعُمَرُ جمع الثلاث.
* وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: لا يَرْجُوَنّ عبد إلا ربه، ولا يخافَنّ إلا ذنبه.
وهذا من أحسن الكلام وأبلغه وأتمه، فإن الرجاءَ يكون للخير، والخوفَ يكون من الشر. والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه، كما قال (تعالى): {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال (تعالى):{فَأخَذْنَاهُم بِالْبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 42، 43] أي: فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، فحقهم عند مجيء البأس: التضرع؛ … وخوفه يوجب فعلَ ما أُمر به، وتركَ ما نُهي عنه، والاستغفارَ من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء، ويُنتصر على الأعداء، فلهذا قال علي (رضي الله عنه): لا يَخَاَفَنّ عبدٌ إلا ذنبه، وإن سُلط عليه مخلوق، فما سُلط عليه إلا بذنوبه؛ فليخف الله، وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله.
وأما قوله: لا يَرْجُونّ عبد إلا ربه، فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله، {وَإن يَمْسسك اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ وَإن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال (تعالى): {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فكل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكلُ عليه، والدعاءُ له، فإنه إن شاء ذلك ويسره: كان وتيسر – ولو لم يشأ الناس-.
الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم العظيم المنان، أشهد ألا إله إلا هو إلها كريماً حليماً، وأشهد أن محمداً نبيٌ كريم، وعبدٌ رسول، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليماً.
ومن بديع كلام الصحابة المروي عنهم رضي الله عنهم:
* قال عمار بن ياسر (رضي الله عنه): ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار.
قال العلامة ابن القيم في شرح هذه الكلمات: وقد تضمنت هذه الكلمات أصول الخير وفروعه؛ فإن الإنصاف يوجب عليه أداءَ حقوقِ الله كاملةً موفّرة، وأداءَ حقوق الناس كذلك. وألا يطالبهم بما ليس له، وأن يعاملهم بما يحب أن يعاملوا به، ويحكم لهم وعليهم بما يحكم به لنفسه وعليها. ويدخل في هذا: إنصافه نفسه من نفسه، فلا يدَّعي لها ما ليس لها، ويُنميها ويرفعها بطاعة الله (تعالى) وتوحيده، وحُبِّهِ وخوفِه.
وأما بذل السلام للعالمَ: فإنه يتضمن تواضعه وأنه لا يتكبر على أحد، بل يبذل السلام للصغير والكبير، والشريف والوضيع، ومن يعرفه ومن لا يعرفه…
وأما الإنفاق مع الإقتار: فلا يصدر إلا عن قوة ثقة بالله، وأن الله يُخلفه ما أنفقه، وعن قوة يقين، وتوكل، ورحمة، وزهد في الدنيا، ووثوق بوعد مَنْ وَعَدَه مغفرةً منه وفضلاً، وتكذيباً بوعد من يعده الفقر ويأمره بالفحشاء.
قال أبو الزناد بن سراج وغيره: إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان؛ لأن مداره عليها، لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقّاً واجباً عليه إلا أداه، ولم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا يجمع أركان الإيمان. وبذلُ السلام يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع وعدم الاحتقار،… ويحصل به التآلف والتحابب. والإنفاق من الإقتار يتضمن غاية الكرم لأنه إذا أنفق مع الإقتار كان مع التوسع أكثر إنفاقاً، وكونه مع الإقتار يستلزم الوثوق بالله والزهد في الدنيا وقصر الأمل وغير ذلك من مهمات الآخرة.
* وقال أبو الدرداء (رضي الله عنه): يا حبذا نوم الأكياسِ وفطرَهم، كيف يغبُنون به قيام الحمقى وصومهم، والذَّرةُ من صاحب تقوى- أفضلُ من أمثال الجبال عبادةً من المغترين.
وهذا من جواهر الكلام وأدلِّه على كمال فقه الصحابة وتقدُّمِهم على مَن بعدهم في كل خير (رضي الله عنهم). وذلك أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة: تقوى القلوب لا تقوى الجوارح… فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة، وتجريد القصد، وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك التعب الكثير…
* وكان معاذ بن جبل (رضي الله عنه) لا يجلس مجلساً للذكر إلا قال حين يجلس: الله حَكَم مُقسط، تبارك اسمه، هلك المرتابون، إن وراءكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والحر والعبد، فيوشك قائلٌ أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن، ما هم بمتبعيّ حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتُدع، فإن ما ابتُدع ضلالة، واحذروا زيغة الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، فاقبلوا الحق فإن على الحق نوراً، فقالوا: وما يدرينا (رحمك الله) أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ؟ قال: هي كلمة تنكرونها منه وتقولون ما هذه، فلا يثنيكم فإنه يوشك أن يفيء ويراجع بعض ما تعرفون.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ألا لا يقلدن رجل رجلا دينه فإن آمن آمن وإن كفر كفر فإن كان مقلدا لا محالة فليقلد الميت ويترك الحي فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
وهذه قواعد جليلة يذكرها لنا معاذٌ وابنُ مسعود يُعملها المرء عند اختلاف الأقاويل، واضطراب المسائل وتشعُّب الآراء؛ والله المستعان.