علو الهمة طريقك إلى القمة – القسم العلمي بمدار الوطن
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن علوَّ الهمَّة من الأخلاق الرفيعة والصفات والكريمة، والخلال الحميدة، تهفو إليه النفوس الشريفة، وتتوق إليه قلوب العظام. وهو سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب الخير، من تحلَّى به لان له كلُّ صعب، واتصف بكلِّ جميل، واستطاع أن يُحقِّق مراده وهدفه.
لَمَّا كان هذا الخلق بهذه المنزلة، ولَما كان كثيرٌ من الناس يفتقدونه؛ أحببنا أن نقف معه وقفات سريعة؛ لعلَّ الله أن ينفع بها.
وصلى الله على نبيا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الناشر
تعريف علو الهمَّة
الهمَّة:
مأخوذة من «الهم»، والهم: ما همَّ به من أمرٍ ليُفعل، والهمَّة هي الباعثة على الفعل، وتوصف بعلوٍّ وسفولٍ، فمن الناس من تكون همَّته عاليةً علوَّ السماء، ومنهم من تكون همَّته قاصرة دنيئة سافلة تهبط به إلى أسوأ الدرجات.
وعلو الهمَّة:
هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية، واستحضار ما يجود به الإنسان عند العطية، والاستخفاف بأوساط الأمور، وطلب الغايات، والتهاون بما يملكه، وبذل ما يمكنه لمن يسأله من غير امتنانٍ ولا اعتدادٍ به.
وعرَّف ابن القيم رحمه الله علو الهمَّة فقال:
«علو الهمَّة ألاّ تقف – أي النفس- دون الله، ولا تتعوَّض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظَّها من الله وقُربه والأُنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيءٍ من الحظوظ الخسيسة الفانية».
فالهمَّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإنَّ الهمَّة كلَّما علت بعدت عن وصول الآفات إليها وكلَّما نزلت قصدتها الآفات من كلِّ مكان.
تعريف دنوِّ الهمَّة
أمَّا دنوّ الهمَّة:
فهو ضعف النفس عن طلب المراتب العالية، وقصور الأمل عن بلوغ الغايات، واستكثار اليسير من الفضائل، واستعظام القليل من العطايا والاعتداد به، والرضا بأوساط الأمور وصغائرها.
وهو كذلك إيثار الدعَّة – أي الراحة – والرضا بالدون، والقعود عن معالي الأمور.
الهمَّة نوعان:
الهمَّة قسمان: وهبية وكسبية، فالوهبية هي ما وهبه الله تعالى للعبد من علوِّ الهمَّة أو سفولها، ويمكن أن تُنمي وتُرعى أو تُهمل وتُترك، فإن نمَّاها صاحبها وعلا بها صارت كسبية، وإن تركها وأهملها ولم يلتفت إليها خبت وتضاءلت، وهي في هذا مثل الذكاء وقوَّة الذاكرة وحُسن الخلق وغير ذلك ممَّا هو معلوم.
والهمَّة مولودة مع الآدمي، يقول ابن الجوزي:
«وقد عرف بالدليل أنَّ الهمَّة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسلِ المنعم، أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيرًا إلاَّ بطاعته، ولن يفوتك خيرٌ إلا بمعصيته، فمن الذي أقبل عليه ولم يرَ كلَّ مراد؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة أو حظي بغرضٍ من أغراضه».
أصناف الناس في شأن الهمَّة
يتفاوت الناس في هِمَمهم، فمنهم من تسمو همَّته، ومنهم من تدنو همَّته، ومنهم من هو بين بين .. ويمكن تقسيم الناس في شأن الهمَّة إلى أربعة أصناف:
الأول- صنف يشعرون أنَّ لديهم قُدرة على عظائم الأمور، ولديهم أهدافًا ومطالب سامية، وعندهم همَّة عظيمة جعلوها في تحصيل هذه المطالب والأهداف، وهذا الصنف من يُسمَّون «عظيمي الهمَّة».
والثاني- صنفٌ لديهم قُدرة على عظائم الأمور، ولكنهم يبخسون نفوسهم فيضعون همَّتهم في سفاسف الأمور وصغائرها ودنياها، وهذا الصنف من يُسمَّون «صغيري الهمَّة».
والثالث- صنف ليس لديه قدرة على معالي الأمور وعظائمها، ويشعر أنه لا يستطيعها وأنه لم يُخلق لها، فيجعل همَّته وسعيه على قدر استعداده، وهذا الصنف بصيرٌ بنفسه، متواضعٌ في سيرته.
والرابع- صنف لا يقدر على عظائم الأمور، ولكنه يتظاهر بأنه قويٌّ عليها، مخلوق لها، وهذا الصنف يُسمُّونه «فخورًا» وإن شئت فسمِّه «متعظمًا».
قالوا عن الهمَّة
1- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تصغرنَّ همّتكم؛ فإني لم أرَ أقعدَ عن المكرمات من صغر الهمم».
2- وقال ممشاد الدينوري: «همَّتك فاحفظها، فإنَّ الهمَّة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همَّته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال».
3- وقال ابن حبَّان البستي: من لم يكن له همَّة إلاَّ بطنه وفرجه عُدَّ من البهائم، والهمَّة النبيلة تبلغ صاحبها الرتبة العالية.
4- وقال الإمام مالك رحمه الله: «عليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتقِ رذائلها وما سفَّ منها، فإنَّ الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها».
5- وقال أحمد الدرعي: «كن رَجُلاً رِجله في الثرى وهمُّه في الثريا، وما افترقت الناس إلاَّ في الهمم، من علت همَّته علت رُتبته، ولا يكون أحدٌ إلا فيما رضيت له همَّته».
6- وقال عبد القادر الجيلاني لغلامه: «يا غلام لا يكن همُّك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كلُّ هذا همُّ النفس والطبع، فأين هم القلب؟.. همُّك ما أهمَّك، فليكن همُّك ربك عز وجل وما عنده».
7- وقال ابن القيم رحمه الله: «النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلاَّ بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار».
8- وقال أيضًا: «من علت همَّته وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ جميل، ومن دنت همَّته وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خُلق رذيل».
9- وقال أيضًا: «لذَّة كلِّ أحد على حسب قدره وهمَّته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسًا وأعلاهم همَّةً، وأرفعهم قدرًا من لذَّتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، والتودُّد إليه بما يحبه ويرضاه».
اهتمام الإسلام بخلق علوّ الهمَّة
اهتمَّ الإسلام بعلوِّ الهمَّة وحضَّ عليه، وحثَّ المسلمين على التحلِّي بهذا الخلق الطيب، ووجَّههم إلى طريق اكتسابه، وحرص على تربيتهم عليه وتنوعت الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، وكثرت مظاهر اهتمام الإسلام به، ويمكن توضيح ذلك في النقاط الآتية:
1- إنَّ القرآن قرن بين الإيمان والعمل كما في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3] والعمل هو الظاهرة المادية لعلوِّ الهمَّة في النفس؛ لأنه هو التحرُّك الجاد الذي تُبذل فيه الطاقات لتحصيل أيِّ غاية من الغايات.
2- إنَّ الإسلام حثَّ على ترقية غايات المسلمين، وهذا إعلاء لهممهم وارتفاع بها عن الدنايا، وأخذ بها إلى معالي الأمور.
3- إنَّ الإسلام وجَّه المسلمين لكسب أرزاقهم عن طريق الكدح والعمل والمشي في مناكب الأرض حتى يعفَّ الإنسان نفسه ويستغني عن غيره، ووجَّههم في المقابل إلى الترفُّع عن مسألة الناس ما لم تدع الضرورة إلى ذلك، وعرَّفهم أنَّ اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى .. قال – صلى الله عليه وسلم -: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي الجبل، فيجيء بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها يكفَّ الله بها وجهه خيرٌ من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»([1]) .
4- ومنها أنه حثَّ المسلمين على التنافس في فعل الخيرات، والتسابق إلى معالي الأمور ورفيع المنازل، وعودهم على الجد في العمل والقيام به بهمَّة ونشاط .. قال تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ [الحديد: 21]
وقال سبحانه: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].
5- ومنها أنه أمر المسلمين بالجهاد ورغَّبهم فيه أيما ترغيب، والجهاد أقصى مراتب العمل الجاد .. قال تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً …﴾ [النساء: 95].
6- ومنها أنَّ الإسلام ذم التواني والكسل، وأمر بالبعد عن الهزل واللهو واللعب، ونأى بأتباعه عن كلِّ أمرٍ لا فائدةً تُرجى من ورائه، وأمرهم بالبعد عن سفاسف الأمور والترفُّع عن الدنايا والمحقِّرات والزهد بالدنيا طلبًا لِما هو أجلَّ وأعظم وأبقى وأخلد، ألا وهو النعيم المقيم في جنات النعيم.
7- ومنها أنَّ الإسلام وضع المسلمين في موضع قيادة البشرية، وحملهم تبعات هذه القيادة، وفي هذا غرس لخلق علو الهمَّة في نفوسهم، وحفز شديد لهم حتى يتحلوا بكل ظواهرها من اختراق الصعاب وتحمل المشاق.
8- ومنها أنَّ الإسلام وجَّه المسلمين للدعاء، والدعاء بابٌ عظيمٌ من أبواب علوِّ الهمَّة، فبه تكبر النفس وتشرف وتعلو الهمَّة وتتسامى، وذلك أنَّ الداعي يأوي إلى رُكن شديد ينزل به جميع حاجاته، ويستعين به في كافة أموره.
9- ومنها أنَّ الإسلام حثَّ المسلمين على خُلق الحياء، لأنه مظهر من أعظم مظاهر علوِّ الهمَّة، وسببٌ عظيم لاكتسابها، وذلك لأنه يدفع المرء للتحلِّي بكلِّ جميلٍ محبوب، والتخلِّي عن كلِّ قبيح مكروه.
10- ومنها – بل ومن أغربها – ما جاء في قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله يُحب العُطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم فحمد الله فحقَّ على كلِّ مسلم سمعه أن يشمته، أمَّا التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليردَّه ما استطاع، فإنَّ أحدكم إذا قال “ها” ضحك منه الشيطان»([2]) .
فالعطاس الذي لا يكون عن مرضٍ هزَّة عصبية موقظة للنشاط والعمل، وهو من علوِّ الهمَّة، بخلاف التثاؤب الذي هو ظاهرةٌ من ظواهر الفتور والكسل وميل الأعصاب إلى الاسترخاء والخلود إلى الراحة وعزوف النفس عن العمل والحركة، وكل ذلك من ضعف الهمَّة، ولذلك جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – التثاؤب من الشيطان، أي مما يرضي الشيطان.
ولَمَّا كان العطاس باعثًا على اليقظة والنشاط كان حقًّا على العاطس أن يحمد الله، لأنَّ العطاس نعمة.
ولَمَّا كان التثاؤب دليلٌ على الكسل والفتور وضعف الهمَّة كان من الأدب أن يردَّه المسلم عن نفسه ما استطاع.
وبالجملة:
فالإسلام أخي الحبيب دين العزة والكرامة, ودين السمو والارتفاع, ودين الجد والاجتهاد, ليس دين كسل وخمول وذلة ومسكنة, حث على علو الهمة ودعا إليه, وتنوعت مظاهر اهتمامه به كما رأيت.
ذم دنوِّ الهمَّة
في مقابل حث الإسلام على علو الهمة وتوجيه المسلمين إلى اكتسابه نجده أيضا ذم دنو الهمة وحذرهم منه, وبين لهم أنه مسلك دنيء وخلق ساقط وعمل مرذول, لا يليق بأهل الفضل, ولا ينبغي من أهل النبل والعقل, وتنوعت أيضا أساليب القرآن في التحذير من هذا الخلق .
فمنها: أنه ذم ساقطي الهمة وصورهم في أبشع صورة, قال تعالى: ) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ( [الأعراف: 175, 176] .
ومنها أنه ذم المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم وقناعتهم بالدون , فقال في شأنهم: ) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ( [التوبة: 87] .
وقال:) ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ( [التوبة: 46] .
ومنها أنه شنع على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة , ويجعلونها أكبر همهم وغاية علمهم, واعتبر هذا الإيثار من أسوأ مظاهر خسة الهمة, وأنه تسفل ونزول يترفع عنه المؤمن قال تعالى: ) يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ( [التوبة: 38] .
ومنها أنه وصف اليهود الذين علموا فلم يعملوا بعلمهم , وشبههم بالحمار, فقال تعالى: ) مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ( [الجمعة: 5]
وقال عنهم أيضًا:﴿ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ﴾ [الأنعام: 91] .
مظاهر دنو الهمَّة
لدنو الهمَّة:
في حياتنا مظاهر عديدة ، وصور كثيرة منها:
1- التكاسل عن أداء العبادات:
فضعيف الهمة يؤدي الصلاة بتثاقل وتباطؤ وقلة رغبة حاله كحال المنافقين الذين لا يقومون إلى الصلاة إلا وهم كسالى كما وصفهم ربهم عز وجل بقوله 🙂 وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ( [النساء: 142]
كما أنه يتكاسل عن قيام الليل و صلاة الوتر وأداء السنن وبخاصة إذا فاتته.
2- التهرب من المسئولية:
وهذا له صور كثيرة, منها التخاذل وذلك بكثرة الاعتذارات والاحتجاج بكثرة المشاغل, ومنها التخذيل, حيث لا يكتفي ضعيف الهمة بالتهرب, وإنما يثبط من أراد البذل والعمل, ومنها التهوين وذلك بتهوين الأمور أكثر من اللازم, وعكسه التهويل وهو تعسير الأمور وتهويلها, وكل هذه الأمور دليلٌ على دنوِّ همَّة الشخص ورغبته في إيثار السلامة والتهرُّب من المسئولية.
3- الإغراق في المظهرية الجوفاء:
حيث يشغل ضعيف الهمَّة نفسه بالمظاهر الفارغة فيعتني بالملبس والمركب العناية الزائدة ، ويهتم اهتمامًا كبيلاسا
4- الاشتغال بما لا يعني والانصراف عما يعني:
فضعيف الهمة يشغل نفسه بما لا يعنيه ويترك ما يعنيه, كأن يشغل نفسه بالقيل والقال وكثرة السؤال, والإكثار من المراء والجدال والمزاح والوقوع في الغيبة والنميمة فيضيع بذلك وقته الذي هو حياته ورأس ماله.
5- الانهماك في الترف:
وهذا يورث ضعف الهمَّة ، ويشغل المرء عن طاعة ربه ، ويقود إلى الضياع ، وينافي المراتب العالية. ومِن صُور الانهماك في الترف التوسُّع في المآكل والمشارب ، وكثرة النوم والمبالغة في التجمل.
يقول الشاعر: فَمَن هَجَر اللَّذَّات نَالَ الْمُنَى ومَن *** أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى اليَدِ
6- الاشتغال بسفاسف الأمور ومحقرات الأعمال:
فضعيف الهمَّة يعيش بلا هدف ولا غاية، لا همَّ عنده و لا شغل إلاَّ العناية بمظهره والتأنُّق في ملبسه، وتلميع سيارته، ومتابعة أخبار الفنِّ والرياضة، والجلوس في الطُرقات وعلى الأرصفة وإيذاء الناس بالتفحيط والمعاكسات.
7- الاسترسال مع الأماني الكاذبة:
فضعيف الهمَّة يهوى المعالي ويعشق المكارم، ويريد النجاح، ولكنه مع ذلك لا يسعى إليها، ولا يجدُّ في طلبها، ولا يبذل أسباب تحصيلها وإنما يكتفي بالأماني الكاذبة والأحلام المعسولة.
8- ا لتسويف والتأجيل:
وهما صفة بليد الحسِّ عديم المبالاة ضعيف الهمَّة، وهما آفتان خطيرتان، لا يسلم منها إلاَّ أ صحاب الهمَّة العالية والإرادات القوية، ولهما آثار وخيمة في الدنيا والآخرة.
9- التحسُّر على ما مضى وترك العمل:
فضعيف الهمَّة يتحسر على ما مضى من تقصيره، ويسرف في ذلك إسرافًا شديدًا فيضيع بذلك حاضره ومستقبله كما ضاع ماضيه، ويأتيه الموت وقد ضاع عمره فيما لا فائدة فيه، ولا طائل وراءه([3]) .
أسباب ضعف الهمم وانحطاطها
لضعف الهمم وانحطاطها ودنوِّها أسباب كثيرة، نذكر منها على وجه الاختصار:
1- الوهن:
وهو كما فسره النبي – صلى الله عليه وسلم -: «حب الدنيا وكراهية الموت»([4]) .
أما حب الدنيا: فهو رأس كلِّ خطيئة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، وسبب استئثار الشهوات والانغماس في الملذَّات والتنافس على دار الغرور.
أما كراهية الموت: فثمرة حبِّ الدنيا والحرص على متاعها، مع تخريب الآخرة، وهما صنوان لا يفترقان، ووجودهما يُورث الجبن والهمَّة العالية لا تسكن القلب الجبان.
2- وجود الإنسان في بيئة أو مجتمع ساقط الهمَّة:
فالبيئة التي تحيط بالإنسان لها دورٌ كبيرٌ في علوِّ همَّته أو سفولها وانحطاطها، فقد تكون سببًا في ترقيه وسموِّ همَّته وتشجيعه على طلب المعالي والعظائم، وقد تكون سببًا في عكس ذلك كالبيئة بالنسبة للنبات، فهي، إن كانت صالحة نما النبات وترعرع وإن كانت سيئة ضعف ومات.
3- ضعف التربية المنزلية أو فسادها:
وهذا السبب أخصُّ من سابقه، وذلك لأنَّ البيت هو المدرسة الأولى التي يتربَّى فيها الولد قبل أن تُربِّيه المدرسة أو البيئة وهو مدينٌ لوالديه في سُلوكه المستقيم/ كما أنهما مسئولان عن فساده وانحرافه .. والبيت الذي يُربَّى أولاده على الميوعة والترف والإسراف والخوف والجبن والهلع والفزع لا يمكن أن ينشأ أولاده على علوِّ الهمَّة، أو يتربَّوا على معالي الأمور، والعكس صحيح.
4- الاستجابة للصوارف الأسرية:
من زوجة وأولاد، و استغراق الجهد في التوسُّع في تحقيق مطالبهم، فالزوجة والأولاد قد يكونون فتنةً للرجل حيث يصدُّونه عن العبادة وعن طلب العلم والسعي إلى المعالي ويثنونه عن مراده، وذلك بسبب كثرة طلباتهم وتخذيلهم له، ولهذا قال ربنا عز وجل: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: 28].
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: 14].
5- الكسل والفتور:
وهما عائقان خطيران، ولا بدَّ للمرء من البعد عنهما لأنهما قاتلان للهمَّة مُذهِبان لها، وقد قيل: «ما لزم أحد الدعَّة إلا ذلَّ، وحُب الهوينى يُكسب الذل، وحب الكفاية أي الاكتفاء بما عليه وعدم الرغبة في الارتقاء- مفتاح العجز».
6- صحبة البطالين ومرافقة ساقطي الهمَّة:
الذين كلما هم الإنسان جذبوه إليهم وقالوا له: «أمامك ليلٌ طويلُ فارقُد» والطبع يسرق منهم، والمرء يتأثر بعادات وأخلاق جليسه، وصُحبة هؤلاء تعُوق المرء عن همَّته، وتُثنيه عن عزيمته، وتحول بينه وبين طلب المعالي، وقد قيل:
ولا تجلس إلى أهل الدنايا***فإنَّ خلائق السفهاء تُعدي
7- كثرة الزيارات للأقارب والأصحاب:
وإهدار الوقت في فضول المباحات، وفيما لا يعود بمنفعة أو فائدة في الدنيا والآخرة، فهذا مما يصرف الإنسان عن طلب المعالي، ويؤدِّي إلى ضياع عمره، وصدق من قال: «إذا طال المجلس صار للشيطان فيه نصيب».
8- متابعة وسائل الإعلام الهابطة:
التي تُثبط الهمم وتخنق المواهب وتُكبت الطاقات وتخرب العقول، وتزرع في الناس ازدرَاء النفس، وتعمق فيهم احتقار الذات والشعور بالدونية، وتقود الناس إلى الهاوية، وتقتل المروءة والرجولة، وتؤدِّي إلى انحطاط الهمم ودنوِّها.
9- الانحراف في فهم العقيدة:
وخاصة مسألة القضاء والقدر، وعدم تحقيق التوكُّل على الله حق توكُّله، وعدم الأخذ بالأسباب، فهذه من أعظم مُثبطات الهمم ومضعفات العزائم، وقاتلات لكلِّ حماسٍ وتطلُّع إلى العلو، ومبدلات للعزِّ بالذل، والعلم بالجهل، والنشاط بالبطالة، والتقدُّم بالانحدار والسقوط.
10- ملاحظة الناس وتقليدهم تقليدًا أعمى:
ولا شكَّ أن أكثر الخلق مفرطون، وهم في الغفلة غارقون، وهم صوارف عن الهمَّة العلية، يقول ابن القيم رحمه الله: «فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه، فنظره قاصر، وهمَّته واقفة عند التشبه بهم وتقليدهم، والسلوك أين يسلكون حتى لو ليدخلوا جحر ضب لأحب أن يدخل معهم».
11- العشق:
لأنَّ صاحبه يحصر همَّته في حصول معشوقه، فيلهيه ذلك عن حبِّ الله ورسوله، كما أنَّ العشق يمنع القرار، ويسلب المنام، ويحدث الجنون، ويتلف الدين والدنيا، والمال والعرض والنفس، ويصير الملك عبدًا فهو من أقوى أسباب ضعف الهمم وانحطاطها.
12- الإعجاب بالنفس والاستبداد بالرأي:
وهذا آية الجهل، ودليل السفه ونقص العقل، يمنع المرء من الاستفادة من عقول الآخرين والاستنارة بآرائهم وتجاربهم والعكس صحيح، فالمبالغة في احتقار النفس تقتل الطموح، وتُفقِد الإنسان الثقة بنفسه، واستشارة من ليس أهلاً لها تورد المهالك، وتُثنِي عن المعالي.
13- التردُّد المذموم والاندفاع الزائد:وكلاهما مذمومٌ حيث يؤدِّيان إلى ضعف العزيمة وموت الهمَّة وصدق من قال:
إذَا كُنتَ ذَا رَ أيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ ذ ***فَإنَّ فسَادَ الرَّأيِ أنْ تَتَرَدَّدَا
14- الحسد والطمع والجشع:
وكلُّها من موجبات سقوط الهمَّة، وسقوط الجاه والمنزلة، فالحاسد والطمَّاع والجشع لا تعلو لهم مكانة، ولا ترتفع لهم منزلة، لأنهم دنيئي الهمَّة مُهيني النفس.
15- الذنوب والمعاصي:
وهذا السبب جامعٌ لكلِّ ما مضى، والذنوب تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مُهيَّئًا لأن يكون من العليَّة، وتورث الذُل، وتُفسِد العقل، وتُذهِب الحياء، وتُصغِّر النفس، وتُنسِي العبد نفسه، وكلُّ هذه الأمور من أسباب دنوِّ الهمم وانحطاطها.
أسباب الارتقاء بالهمَّة
هناك أسباب كثيرة ووسائل متعدِّدة للارتقاء بالهمَّة، وهي في الحقيقة الوجه الآخر لأسباب انحطاط الهمَّة .. وفيما يلي جُملة منها:
1- التربية الصحيحة من قبل الوالدين:
فإنَّ الولد الذي يحرص والداه على تربيته على الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة، والخلال الكريمة مع إبعاده عن مساوئ الأخلاق ومرذول الفعال سيشبُّ بإذن الله عالي الهمَّة، محبًّا لمعالي الأمور، متصفًا بمكارم الأخلاق، كارهًا لسفاسف الأمور.
ومن أراد أن يعرف أثر الوالدين في نفوس الأولاد فليتتبع حال سلفنا الصالح الذين خرَّجوا لنا أفضل الأجيال، وقدَّموا لنا أ عظم الأبطال، فمن كان وراء عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد وعبد الله بن الزبير؟ ومن الذي صنع البخاري وابن تيمية وابن القيم وغيرهم؟ إنهم الآباء العظماء والأمهات الفضليات.
2- وجود المربين الأفذاذ والمعلمين القدوة:
الذين يتَّصفون بعلوِّ الهمَّة وحُسن الخلق، ويستشعرون عظم المسئولية وضخامة الأمانة، ويحرصون على بثِّ رُوح التنافس بين طلابهم، وتربيتهم على طلب المعالي والترفُّع عن الدنايا وعزَّة النفس وقوة العزيمة، ويؤثِّرون فيهم بالفعل قبل القول.
3- العلم والبصيرة:
فالعلم يصعد بالهمَّة، ويرفع طالبه عن حضيض التقليد، ويورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال؛ فيتَّقي فضول المباحات التي تشغله عن التعبُّد، ويبصره بحِيَل إبليس وتلبيسه عليه كي يحول بينه وبين ما خُلق له، ويحثُّ على طلب المعالي والترفع عن الدنايا.
4- مجاهدة النفس ومحاسبتها:
فبدون ذلك لا يتحقَّق شيء ولا يخطو المرء خطوة للإمام ولهذا قال ربنا عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]
ولا شكَّ أنَّ مجاهدة النفس وحرمانها من بعض ملذَّاتها ورغباتها وعوائدها، وإلزامها بأعمال تحتاج جهدًا ومشقَّة، ومحاسبتها على التقصير، وأخذها بالجدِّ والحزم، لا شكَّ أنَّ هذا يقوِّي الإرادة، ويبعث على العزيمة يقول الشاعر:وفي قَمع أهوَاء النفُوسِ اعتزَازُها***وفي نَيلهَا مَا تَشتهي ذُلٌّ سَرمدُ
5- إرادة الآخرة وجعل الهموم همًّا واحدًا:
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19]
وقال – صلى الله عليه وسلم -: «من كانت الآخرة همه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له»([5]) .
6- تذكُّر الموت وقصر الأمل:
فهذا يُوقظ الهمَّة، ويبعث الجد والاجتهاد، ويدفع إلى العمل للآخرة، والتجافي عن دار الغرور وتجديد التوبة وإيقاظ العزم على الاستقامة .. يقول ابن القيم رحمه الله:
«صدق التأهُّب للقاء الله- ومنه تذكر الموت والاستعداد له- من أنفع ما يكون للعبد وأبلغه في حصول استقامته، فإنَّ من استعدَّ للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله وعكفت همَّته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته واستحدثت همَّة أخرى وعلومًا أخر، وولد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمِّه.. أ.هـ.
7- الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله:
فهو المسئول وحده أن يقوِّي إرادتنا، ويعلي همَّتنا ويرفع درجاتنا .. وبالدعاء تشرف النفس وتعلو الهمَّة، ولهذا كان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أعنِّي على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك»([6]) .
8- قراءة القرآن الكريم وتدبره:
فهو يهدي للتي هي أقوم، ويدفع إلى الكمالات، ويحثُّ على الفضائل، ويدعو إلى كلِّ جميل، وهو الذي يرهف العزائم ويعلي الهمم، ويقوي ا لإرادات، ويحفز النفوس على العمل النافع والسعي المثمر، ويطهر النفوس من الدنايا، وينأى بها عن محقرات الأعمال وسفاسف الأمور، وهو الذي جعل من رعاة الغنم قادة الأمم فنشروا العدل، وقضوا على الظلم، وفجَّروا العلم والحكمة تفجيرًا.
9- التحوُّل عن البيئة المثبطة للهمم:
فعلى المرء أن يهجر البيئة التي تدعوه إلى الكسل والخمول وإيثار الدون حتى تعلو همَّته، وتتحرر من سلطان تأثيرها، وتنعم بفرصة الترقِّي إلى المطالب العالية حيث يجتمع قلبه، ويلتئم شمله، وتتوحد همَّته، وتتوجه بصدق وعزم نحو المعالي.
10- مصاحبة أولي الهمم العالية:
وهذا السبب أخصُّ من سابقه، وهو من أ عظم ما يبعث الهمَّة ويربي الأخلاق الرفيعة في النفس، وذلك لأنَّ كلَّ قرين بالمقارن يقتدي، والمرء مولع بمحاكاة من حوله، شديد التأثر بمن يصاحبه، مجبول على الغيرة والتنافس ومزاحمة الآخرين.
ووجود الصاحب، الذي يجري بك نحو معالي الأمور، ولا يتوانى في تقديم ما يمنحك التوفيق، ويعتبر نجاحك نجاحًا شخصيًا له، مهم في وصولك إلى القمة وبلوغ المعالي. وهذا يفسر لنا قول ابن مسعود رضي الله عنه: «اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب الرجل من هو مثله».
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ما أعطي ع بد بعد الإسلام خيرًا من أخ صالح فإذا رأى أحدكم ودًّا من أخيه فليتمسك به».
أنتَ في النَّاس تُقَاس*** بالذي اختَرت خَلِيلا
فاصْحَب الأخيَار تَعلو*** وتَنل ذِكرًا جَميلا
صُحبة الخَامِل تكسُو*** من يُؤاخِيه خُمُولا
وإذا أردت أن تعرف أثر الصحبة العالية الهمَّة في التسابق إلى الخيرات، فتأمَّل ما قاله محمد بن علي السلمي رحمه الله: «قمت ليلة سحرًا لآخذ النوبة على ابن الأخرم، فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئًا، ولم تدركني النوبة إلى العصر».
11- إدامة النظر في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم -:
فهو أقوى الناس عزيمةً وأعظمهم إرادةً وأعلاهم همَّة، وحياته – صلى الله عليه وسلم – مليئة بالمواقف والأحداث التي تبعث علوَّ الهمَّة وتوقظ العزيمة.
يقول ابن حزم رحمه الله: «من أراد خير الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها؛ فليقتدِ بمحمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه».
12- مطالعة أخبار السلف وقراءة سيرهم:
والنظر في تراجمهم وما كانوا عليه من الجدِّ والنشاط، يقول ابن الجوزي رحمه الله: «فسبيل طالب الكمال الاطلاع على الكتب.. فإنه يرى من علوم القوم وعلوِّ هممهم، ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد»..
ثم يقول: «وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كُتبهم رُؤية لهم».
ثم يُبين ثمرة ذلك فيقول: «.. فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع».
13- اعتراف الشخص بقصور همَّته وأنه لا بد له أن يطورها ويعلو بها:
وهذا أمرٌ لا بدَّ منه، فمن لم يعترف بقصور همَّته لا يمكن أن يحاول في تطويرها والارتقاء بها، ثم لا بدَّ أن يعتقد أنه قادرٌ على أن يكون من أهل الهمَّة العالية، وبدون هذين الأمرين لا يمكن أن يتقدَّم المرء أو يخطو خطوات صحيحة.
14- الحرص على تحصيل الكمالات والتشويق إلى المعرفة:
فمن استوى عنده العلم والجهل، أو كان قانعًا بحاله وما هو عليه؛ لم ترتقِ همَّته ولم يحرص على علوِّها والارتقاء بها إلى الأفضل، يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «إن نفسي تواقة، وإنها لم تُعط من الدنيا شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلما أُعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا؛ تاقت إلى ما هو أفضل منه .. يعني الجنة».
ويقول ابن حجر رحمه الله واصفًا حال الإمام جلال الدين البلقيني: «ما رأيت أحدًا ممَّن لقيته أحرص على تحصيل الفائدة منه، بحيث إنه كان إذا طرق سمعه شيء لم يكن يعرفه لا يقر ولا يهدأ ولا ينام حتى يقف عليه ويحفظه، وهو على هذا مكبٌّ على الاشتغال، محبٌّ للعلم حقّ المحبة» اهـ.
15- تحديد الأهداف ومراعاة الأولويات والإعداد الجيد للوصول إليها:
وذلك لأنَّ الإنسان إذا لم يحدِّد الأهداف التي يريد تحقيقها ولم يقدم ما حقُّه التقديم، ولم يرسم لنفسه طُرقًا للوصول إلى هذه الأهداف، إذا لم يفعل ذلك سيصاب بالملل والرتابة والكسل، وكلُّها أشياء مثبطة للهمم مضعفة لها.
16- البعد عن الترف والنعيم:
وذلك لأنَّ الانغماس في النعيم والتقلُّب في الترف، والانهماك في اللذات يشغل الإنسان عن طلب المعالي، ويسد عليه طريق المجد، ويورث ضعف الهمَّة وحقارة الشأن، والعكس صحيح، فالبعد عن الترف والتجافي عن النعيم يعين على بلوغ العز واكتساب الهمَّة العالية والطموح إلى معالي الأمور.
17- النظر إلى من هو أعلى في الفضائل، وإلى ما هو أسفل في أمور الدنيا:
فهذا من وسائل اكتساب الهمَّة العالية والنهوض إلى طلب معالي الأمور، وقد قيل: «إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال، ولكن انظر إلى من فوقك من العلماء».
وذلك لأنَّ الإنسان إذا نظر إلى من هو أعلى منه في الفضائل دفعه ذلك إلى اقتنائها واجتهد في طلبها، ولم يرض من المناقب إلاَّ بأعلاها ولم يقف عند فضيلة إلاَّ وطلب الزيادة فيها.
18- استشعار المسئولية:
وهذا مما يبعث الهمَّة ويقوِّيها ويقود إلى التنافس في الخيرات، ويجعل الإنسان يبذل كلَّ ما في وسعه ومقدوره، وينهض بالواجبات من غير تردُّد أو إحجام، ولا يختلق الأعذار للتهرب من المسئولية، قال – صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»([7]).
19- التنافس والتنازع بين الشخص وهمَّته:
فعلى من يريد أن يرتقي بهمَّته ويطوِّرها أن يكلِّف نفسه بأعمال جديدة غير التي اعتادها، وهذا بدوره يخلق نوعًا من التحدِّي بداخله لإنجاز هذه الأعمال الجديدة، كما أنه بهذا العمل استثار همَّته وحرك إرادته نحو مزيد من الأعمال، ودفع عن نفسه الملل واليأس اللذين قد يُصاب بهما نتيجة تكرار الأعمال اليومية.
20- ا نتهاز الفرص التي تعرض عليك:
فإنَّ الفرص ثمينة، وفواتها لا يعوض، وانتهازها دليل على الجد والحزم، ووسيلة لتحسين الأخلاق وتقويتها والتي منها علو الهمَّة يقول الشاعر:
بَادِرِ الفُرْصَةَ وَاحْذَرْ فَوتَهَا*** فَبُلُوغُ العِزِّ فِي نَيْلِ الفُرص
21- اغتنام الأوقات:
فإنَّ الوقت هو رأس مال الإنسان، وضياعه ضياع للإنسان، وحفظه واستثماره في المفيد النافع من أعظم الحفظ وأحسن الاستثمار فإن كنت حريصًا أخي ا لمسلم على أن يكون لك مجدٌ فدعِ الراحة جانبًا، واجعل بينك وبين اللهو واللعب حاجبًا، فالعاقل من يقدِّر قيمة وقته حقَّ قدره، ولا يتخذه وعاء لأبخس الأشياء، فالأنفاس معدودة، والوقت محدود، وما فات من الزمن لا يعود.
22- التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب:
فتوجَّه القلب إلى الله تعالى واستمداد العون منه والاعتماد عليه وحده والقيام بالأسباب المأمور بها حال العمل، سبب في حصول المراد ودفع المكروه، ولا يكفي أحدهما، بل لا بد منهما معًا، وهذا هو التوكل الحقيقي على الله، وما بذل أحد جهده، وسعى في الأمور النافعة، واستعان بالله، وأتى الأمور من أبوابها؛ إلاَّ وأدرك مقصوده، وحقَّق مناه كلَّه أو بعضه.
23- السلامة من الغرور ومن المبالغة في احتقار النفس:
وذلك لأنَّ الغرور واحتقار النفس من أعظم أسباب سقوط الهمَّة ودنوِّها، كما أنَّ السلامة منهما من أعظم علو الهمَّة وقوَّة الإرادة، أمَّا الغرور فلأنَّ صاحبه يحتقر كلَّ من عداه، ويترفَّع عن الإصغاء للنصيحة والاستماع إلى آراء الآخرين ويستبد برأيه، ولا يستفيد من تجارب غيره، وأمَّا احتقار النفس فلأنه يحطم النفس ويسلب الإرادة ويفقد الأمل ويقلل الثقة بالنفس ويساعده على الكسل والخمول.
24- الابتعاد عن كلِّ ما من شأنه الهبوط بالهمَّة وتضييعها:
وقد ذكرنا جُملة من الأسباب التي تؤدِّي إلى انحطاط الهمَّة ودنوِّها، ولا شك أن تلافي هذه الأسباب والابتعاد عنها والعمل على إيجاد عكسها، هو أنجع الأدوية وأقواها.
25- تقوى الله تعالى وطاعته:
وهذا السبب جامعٌ لكلِّ ما مضى، فتقوى الله هي العدَّة في الشدائد والعون في الملمَّات، وهي مبعث القوة ومعراج السموِّ إلى السماء، وهي التي تُثبِّت الأقدام في المزالق، وتربط القلوب في الفتن، وتقذف النفس نحو معالي الأمور وتورث الطمأنينة والسكينة.
نماذج للهمَّة العالية من حياة السلف
لم تخل حياة سلفنا من نماذج عظيمة وقمم عالية في شتى العلوم والفروع، تعلقت قلوبهم بالمعالي واشتاقت للذرى، فلم ترضَ بالدون أبدًا، وسير هؤلاء مما يبعث الهمَّة ويقدح زندها ويزكي أوارها، ويبعث في النفوس رُوح المضيِّ على آثارهم والتخلُّق بأخلاقهم.
لقد حفل تاريخنا بمواقف رائعة تشي بعلوِّ همَّة سلفنا، وتعلن عن نظرتهم العميقة إلى حقائق الأشياء، وتساميهم عن المظهرية الجوفاء، وترفعهم عن سفاسف الأمور ودنايا الأفعال، واعتزازهم بانتمائهم إلى هذا الدين .. وها هي إشارات سريعة من حياة القوم نسوقها علَّها تحرك نفوسنا للسير في طريقهم.
علو همَّة السلف في طلب العلم
يقول ابن عباس رضي الله عنه: «لما قُبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت لرجل من الأنصار: هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فإنهم اليوم كثير، فقال: وا عجبًا لك يا ابن عباس، أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من فيهم؟ قال: فتركت ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح علي من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحقُّ أن آتيك، فأسأله عن الحديث.
فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني».
وقيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب.
ويقول الرازي عن نفسه: «أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيًا ثم إلى الرملة ماشيًا، ثم إلى طرسوس، ولي عشرون سنة».
علوِّ همَّتهم في العبادة
اجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته اجتهادًا شديدًا فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟! فقال: إنَّ الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقلُّ من ذلك، قال: فلم يزل على ذلك حتى مات.
وكان أبو مسلم الخولاني قد علَّق سوطًا في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفنَّ بك زحفًا حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه، ويقول: أنت أولى بالضرب من دابتي.
وكان يقول: «أيظن أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يستأثروا به دوننا؟! كلا والله، لنزاحمهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً».
وعن حماد بن سلمة قال: «ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يُطاع الله عزَّ وجل فيها إلاَّ وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إمَّا متوضئًا، أو عائدًا، أو مشيعًا لجنازة , أو قاعدًا في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله عز وجل».
علو همَّتهم في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال شجاع بن الوليد: «كنت أخرج مع سفيان الثوري فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا».
وقال إبراهيم بن الأشعث: «كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودِّع أصحابه ذاهب إلى الآخرة..».
وكان الفقيه الواعظ أحمد الغزالي يدخل القرى والضياع، ويعظ أهل البوادي تقربًا إلى الله.
علو همَّتهم في الجهاد في سبيل الله
يقول القاضي ابن شداد عن علوِّ همَّة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله: «كان رحمه الله عنده من أ مر القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، وهو كالوالدة الثكلي يجول بنفسه من طلبٍ إلى طلب، ويحثُّ الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه، وينادي: يا للإسلام، وعيناه تذرفان بالدموع».
ونظر صلاح الدين رحمه الله إلى أمواج البحر الهادرة، ثم التفت إلى القاضي ابن شداد وقال: «أمَا أحكي لك شيئًا في نفسي؟ إنه متى يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد، ووصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائره، وأتبعتهم – أي الصليبيين- فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت».
وانظر إلى همَّة الإمام ابن حزم رحمه الله التي بلغت الآفاق إذ يقول:
مُنَاي مِن الدُنيَا عُلومٌ أبثُّها*** وَأَنشُرُهَا فِي كُلِّ بَادٍ وَحَاضِر
دُعَاء إلى القُرآن والسُنَن الَّتي*** تَنَاسَى رِجالٌ ذِكرَها في المحاضِرِ
وَألزم أَطرَافَ الثُغُورِ مُجَاهِدًا*** إذا هَيعَةٌ ثَارَت فَأَوَّل نَافِرِ
لأَلقَى حِمَامي مُقبلاً غَير مُدبِرٍ*** بسُمرِ العَوالِي وَالدقَاقِ البوَاتِرِ
كفَاحًا مَع الكفّار في حَومةِ الوَغَى*** وَأكرَمُ مَوتٍ لِلفَتَى قَتلُ كَافِرِ
فيَا رَبُّ لا تَجعَل حِمَامي بغَيرِهَا*** وَلا تَجعَلنِي مِن قَطِين المقَابِر
ثمرات علو الهمَّة
لعلو الهمَّة أخي الحبيب ثمرات كثيرة منها:
1- علو الهمَّة سبب للحصول على الحياة الطيبة؛ لأنَّ الحياة الطيبة لا تُنال إلاَّ بالهمَّة العالية والمحبة الصادقة والإرادة الخالصة، وعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخس الناس حياة أخسهم همَّة، وأضعفهم محبة وطلبًا، وحياة البهائم خير من حياته كما قيل:
نهَارُك يَا مغرُورُ سَهوٌ وَغفْلَةٌ*** وليلُك نَومٌ والرَّدَى لَكَ لازِمُ
وَتكدَحُ فِيمَا سَوفَ تُنكِر غِبّه*** كذَلِك في الدُنيَا تَعيشُ البهَائِمُ
تسرُّ بِما يفَنَى وتَفرَحُ بِالْمُنى*** كما غَرَّ باللذَّات في النَّوم حَالِمُ
2– علو الهمَّة يجلب لصاحب خيرًا غير مجذوذ، ويجري في عروقه دم الشهامة، والركض في ميدان العلم والعمل، فلا يُرى واقفًا إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطًا يده إلا لمهمات الأمور.
3- علو الهمَّة يسلب منك سفاسف ا لآمال والأعمال، ويجتث منك شجرة الذل والهوان، ولا يجعلك ترضى الدون، ولا تقنع بالسفاسف.
4- علو الهمَّة يحقق لك كثيرًا من الأمور التي يظنها عامة الناس خيالاً لا يتحقَّق، وهذا أمر مشاهد ومعروف عند أهل الهمم؛ إذ يستطيعون إنجاز كثير من الأعمال بإذن الله، التي يظنها ضعفاء الهمَّة خيالاً.
5- علو الهمَّة سبب للوصول إلى المراتب العالية في العبادة والزهد، والأمثلة على ذلك من حياة السلف كثيرة.
6- علو الهمَّة ترفع القوم من السقوط، وتبدلهم بالخمول نباهة، وبالحطة رفعة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية.
7- علو الهمَّة تجعل الإنسان يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته وتحقيق بغيته؛ لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللذات لا تنال إلا بحظ من المشقة ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب.
8- علو الهمَّة تجعل صاحبها قدوة في مجتمعه، ينظر إليه الكسالى والقاعدون فيقتدون بهمَّته، وتناط به الأمور الصعبة وتوكل إليه.
وفي الختام: نسأل الله تعالى أن يرزقنا همَّة عالية، وعزيمة قوية، إنه ولي ذلك و القادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. منقول عن موقع إسلام هاوس
———————————