فضل بناء المساجد و عمارتها – الشيخ أ.د عبد الله ابن محمد الطيار
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله،{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }(آل عمران: 102).
عباد الله: جعل الله جل وعلا المساجدَ أحبَّ الأماكن إليه، قال صلى الله عليه وسلم:(أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا) (رواه مسلم) ليُعبد فيها وحده، ويُذكر فيها اسمُه، ويُعلى فيها أمرُه ونهيُه، ويتقربُ فيها المسلمون إليه بشتى أنواع العبادات، من صلاة وذكر وتلاوة قرآن واعتكاف وتسبيح ودعاء، وتتطهرُ فيها النفوس والأبدان من أدران الذنوب والعصيان، وتحصلُ فيها الراحة والأنس، والأمن والإيمان، ولذة مناجاة الكريم المنان.
فهي بيوت الله جل وعلا في الأرض، وهي أطهر البقاع وأنقاها، ومن مناراتها تعلو أصوات المؤذنين، وتتكرر كلمات التوحيد.
عليها تهبط الملائكة، وتتنزل الرحمات، ويغشى أهلَها السكينةُ، وتحل عليهم البركات، يتعارف فيها المسلمون، ويتآلفون ويتعاونون، ويتزاورون ويتراحمون، وتقوى بينهم الصلة والمودة والرحمة.
تربت فيها أجيال مسلمة تعلّمت التوحيد، وإخلاصَ العبادة لله، محبّةً وإنابةً، ورغبةً ورهبةً, وخوفًا ورجاءً، وإخلاصًا وتوكلاً، وذلاً وتعبدًا، نشرتْ دينَ الله في الآفاق، وجاهدتْ لإعلاء كلمة رب الأرض والسماوات.
خرج منها رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أحبوا ربهم فعمروا بيته، وأتمروا بأمره واجتنبوا نهيه، لبوا نداء الصلاة، فبادروا إلى لقاءه، {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(النور:37 ـ38).
وهي رياضٌ رحبة تقام فيها مجالس العلم والذكر، لتعليم الدين، وحفظ القرآن العظيم، ومدارسة سيرة سيد المرسلين، ويتلقى الناسُ فيها التربية والأخلاق، ومعرفة السنة والبدعة، والحلال والحرام.
وفيها أقام فقراء المهاجرين، واستُقبلت الوفود، وعُقدت الألوية والرايات، ومنها انطلقت البعوث وأُرسلت الجيوش.
أمر الله جل وعلا بتطهيرها من أرجاس الشرك والكفران، قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}(الجن:18)، وتعميرها بالطاعات والقربات؛ قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}(النور:36 ـ38)..
أضافها الله جل وعلا إلى نفسه إضافةَ تشريفٍ وإجلالٍ، وشَهِدَ لعُمَّارِها بالإيمان، فقال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ..}(التوبة:18).
وتوعَّد من منع فيها ذكره أو تسبب في خرابها بالخزي في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة، فقال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(البقرة:114).
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء بدأ ببناء مسجد قباء، وهو أول مسجد بُني في المدينة، وأول مسجد بني لعموم الناس، ثم قام بعد دخوله للمدينة بتخصيص أرض لبناء مسجده صلى الله عليه وسلم حتى أتمه .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً في سفر أو حرب وبقي فيه مدة اتخذ فيه مسجداً يصلي فيه بأصحابه رضي الله عنهم، كما فعل في خيبر.
وتتابع هذا الأمر مع الخلفاء الراشدين، فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ولاته أن يبنوا مسجداً جامعاً في مقر الإمارة، ويأمروا القبائل والقرى ببناء مساجد جماعة في أماكنهم.
عباد الله: لقد حث ديننا الحنيف على بناء المساجد وعمارتها, وجعل ذلك سبيلاً إلى الجنة والفوزِ برضا الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم:( مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّةِ). وفي رواية: (بَنَى اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ)(رواه البخاري ومسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ بَنَى ِللهِ مَسْجِدًا، صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وقال أيضاً:(مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِيُذْكَرَ اللهُ فِيهِ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) (رواه النسائي ) .
وقال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا في الْجَنَّةِ)(رواه أحمد، وصححه الألباني).
وكما حثنا الإسلام على بناء المساجد فقد حث أيضاً على عمارتها, وجعل ذلك علامة من علامات الإيمان, قال جل وعلا:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(التوبة:18).
وقال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ)(متفق عليه).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(النور: 36ــ 38).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون والمؤمنات: واعلموا أن ما تقدمونه في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون.
عباد الله: المساهمة في بناء المساجد تشمل جميعَها سواء كانت صغيرة أو كبيرة، أو كانت المساهمة في جزء من المسجد، فالحديث هنا جاء من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء، فالمساهم مع غيره في بناء مسجد والمجدد له ومن أدخل توسعةً عليه يكون داخلاً في مضمون الحديث السابق.
ومن كان ينوي أن يبني مسجداً أو يساهم في بناءه حال حصوله على مال ولم يستطع كتب الله له أجر بناء مسجد، لقوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى..)(متفق عليه)، وقال أيضاً (..فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً..)(رواه البخاري ومسلم)، ولأن قبول العمل متوقف على إخلاص صاحبه.
وبناء المساجد من الأعمال التي يجري أجرها للعبد بعد ما ينقطع عمله بالموت، وهو من الصدقة الجارية، قال صلى الله عليه وسلم:(إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)(رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم:( سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وهُو فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ)(رواه البزار، وحسنه الألباني).
وإن من عمارة المساجد إقامتَها، وترميمَها وتعاهدَها وصيانتَها، ويدخل هذا الفعل أيضا في الصدقة الجارية، ولو كانت المشاركة بمبلغ قليل، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ)(رواه ابن ماجه وحسنه الألباني).
وأما العمارة المعنوية فتكون بالصلاة، والذكر، والدعاء، وإقامة دروس العلم، وحلقات تحفيظ القرآن الكريم، والمحاضرات، والندوات.
فاحرصوا بارك الله فيكم على عمارة بيوت الله، وتسابقوا في الإنفاق عليها، وبذل الخير لها، وحافظوا على أداء الصلاة فيها، تنالوا خيري الدنيا والآخرة. أسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالمساهمة في بناء مساجده، وأن يجعلنا ممن يعمرها إيماناً ومحبة وانقياداً لأمره.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: 56). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.